الإسلام دين شامل وكامل، يشمل كل مناحي الحياة وجميع جوانبها، ولا يغيب عنه شيء من مهماتها.. وقد تناول المسلمون في علومهم جميع هذه الجوانب، ومن هنا تعددت وتنوعت العلوم الإسلامية بحسب موضوعاتها، فكل علم من هذه العلوم يبحث في جانب من جوانب علوم الإسلام الكامل الشامل.
وإذا أنعمنا النظر في طبيعة ونشأة العلوم الإسلامية المتعددة نجدها ترجع إلى أحد أمور ثلاثة جاء بها هذا الإسلام، وهي: المِلّة (ويقصد بها هنا العقيدة أو علم العقائد والفرق)، والشريعة، والمنهج، التي يجمعها اصطلاح (دين) أو (إسلام).
وقد تعبَّد الله عز وجل عباده بهذه الأمور جميعاً، وبين أن الملة واحدة، والشرائع والمناهج متعددة، فقال سبحانه مبيناً وحدة الملة: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(النحل: 123)، وقال أيضاً: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(الأنعام:161ـ163)، وقال أيضاً: {إني تركتُ مِلَّة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون* واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسـحق ويعقوب، ما كان لنا أنْ نُشْرك بالله من شيء، ذلك من فَضْل الله علينا وعلى الناس، ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون}(يوسف:37ـ38).
وأما تعدد الشرائع واختلافها من أمة إلى أخرى فقد قال عنه سبحانه: {لكلٍ جَعْلَنا منكم شِرْعةً ومِنْهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة، ولكن لِيَبْلوكم فيما آتاكم، فاستَبِقوا الخيرات}(المائدة: 48)
ومع تبلور العلوم وظهور التخصصات، أصحبت دراسة العقيدة أو (الملة) من اختصاص أقسام العقيدة في الجامعات الإسلامية اليوم، كما أن دراسة (الشريعة) أصبحت من اختصاص أقسام الكتاب والسنة، وأقسام الفقه والأصول، وأصبحت دراسة (المنهج) من اختصاص أقسام الدعوة. ومعلوم أن هذه الدراسات جميعها تمثل دراسة الدين الواحد الذي يشمل كلاً من الملة والشريعة والمنهج.
لهذا، كان أي فَصْلٍ كامل بين هذه الدراسات، أو العناية بواحدة منها على حساب الأخرى، يُعدَّ فصلاً بين أجزاء مترابطة، لا يصح الدين ولا يَكمُل ولا يَسْلَمُ إلا بها جميعاً.
فالداعية إلى الله يدعو إلى كلٍ من الملة والشريعة والمنهج، والدارس للملة والشريعة لابد له من معرفة المنهج والطريق الصحيح لذلك، فكل اختصاص من هذه الاختصاصات مفتقر إلى غيره، وإذا كان ثَمَّة فارق، فإنما هو في نوعية التخصص من جهة، ومدى عناية أصحاب كل تخصص بتعميق وتأصيل بعض المواد العلمية المتعلقة بتخصصهم أكثر من بعض المواد الأخرى من جهة أخرى.
وإذا كانت أقسام العقيدة تعني أول ما تُعني بدراسة العقيدة التي تتناول أصول الملة وفروعها، ودراسة الملل والنحل الأخرى، فإنه لا غنى لدارس العقيدة عن دراسة الأحكام الشرعية ومعرفتها، وعن بصيرةٍ بالمنهج والأسلوب الذي يدرس به هذه العقيدة ويدعو به إليها، لتسلَمَ له عقيدتُه، ويَعلمَ كيف يدعو إليها وبعلمها ويطبقها في حياته.. وإلا كانت دراسته نظريةً مجردة.
وإذا كانت أقسم القرآن والسنة، وأقسام الأصول والفقه، تُعني أول ما تعني بدراسة القرآن الكريم والحديث الشريف، وبدراسة أصول الفقه وأحكام الفقه، فإنه لا غنى لدارس هذه العلوم من معرفة صحيحة بالملة والعقيدة التي تُعدُّ أساسا لها، ومن بصيرة بالمنهج والأسلوب الذي يدرس به هذه الشريعة، ويدعو به إليها ويعلمها للناس ويعمل على تطبيقها في حياتهم، وإلا كانت عباداته جافة، وأضحت دراسته للكتاب والسنة نظرية مجردة.
وإذا كانت أقسام الدعوة تُعني أول ما تعني بدراسة تاريخ الدعوة وأصولها، والتعرف على مناهجها وأساليبها ووسائلها وما إلى ذلك.... فإنه لا غنى لدارس الدعوة من معرفة صحيحة بالملة والعقيدة، وإلمام واف بالأحكام الشرعية العملية، لتسلم له عقيدته وشريعتُه من جهة، ويكون على بصيرة بما يدعو إليه من جهة أخرى. وإلا كانت دعوته إلى ضلال، وعمله في غير هدى، قال تعالى: {قُلْ هذه سَبيلي أُدْعو إلى الله على بَصيِرة، أنا ومَن اتبّعني}(يوسف:108).
ومن هنا يتبيَّن لنا: أن اختلاف الأقسام العلمية في ترتيب أولوياتها، وفي تقديم مادة علمية على غيرها، إنما يعود إلى واقع تخصصها وطبيعة ميدانها فحسب، ولا صلة له بتفضيل علم على علم أو ترجيح تخصص على غيره، بل لابد لكل قسم من هذه الأقسام أن يُقَدَّم للدارسين فيه الحد الكافي من العلوم الأخرى، وإن لم تكن من تخصصه في الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: (المدخل إلى علم الدعوة للبيانوني:25)