"لماذا" هو أحد أدوات المعرفة التي يستخدمها الإنسان في حياته لاستكشاف جوانب المعرفة، مثلًها مثل: أين، ومتى،و كيف، وأخواتها. كلها مفاتيح لأبوابٍ ضخمة تكشف الستار عن المجهول.
فإذا كان السؤال ب:"لماذا" متعلّقاً بالأفعال الإلهيّة، كان متعلّقاً بالحكمة الإلهية مستفسراً عن حقيقتها، والحكمة الإلهيّة صفةٌ من صفات الله تعالى.
ومع استيعاب التساؤلات، وفحص الأطروحات، والتي تأتي على ألسنة السائلين عن الحكمة الإلهيّة، نجد أنفسنا أمام قسمين من الأسئلة: أحدهما قسمٌ مرْضي –بتسكين الراء-، وهي تلك التساؤلات المحمودة في أصلها، المثمرة في نتائجها. وقسمٌ مَرَضي –بفتح الراء-، والتي يكون مبعثها الشك والريبة، لا البحث عن الحكمة.
فانظر إلى تباين القسمين باختلاف حركة واحدة على حرف، جعلتنا على مفرق طرقٍ بين ما يُرضي الله فيما يتعلّق بالسؤال عن الحكمة وما لا يُرضيه، والمراد هنا بيان شيءٍ من أوصاف كلا القسمين، لنتبيّن ميزانهما في المدح والذمّ.
سؤال الحكمة المقبول
وهو السؤال الذي يتساءله المرء عن حكمةِ الله في بعض أفعالِه، على وجه الاستزادة في العلم بحقيقة هذه الصفة واستجلاء جوانبها واستكشاف آثارها على الخلق، فتكون سبباً في زيادة الإيمان عند صاحبها.
ومثال هذا النوع، أن يسأل الواحد عن حكمة الله في خلق اليدين، ويُعمل عقلَه في استحضارِ فوائدهما وأبعاد النعمةِ في خلقِهما، وتعطّل المصالح بفقدهما، مما يجعل المرء يستشعر نعمة الله عليه بأن جعل له هذه النعمة التي لولاها لفقد التواصل الفاعل مع البيئة من حولِه، وقل مثل ذلك في بقيّة النعم في جسده، وقل أضعاف ذلك فيما هو مبثوثٌ في الكونِ من حولِه.
كذلك الأمرُ فيما يتعلّق بأفعال الله في الخلق والإماتة، والإغناء والفقر، والإمداد بالنعم أو إمساكِها، وإجابة الدعاء والامتناع عن ذلك، وكلها أفعالٌ إلهيّة يمكن عندها استكشاف بعض جوانب الحكمة الإلهيّة فيها.
وأما ثمرة ذلك: فهي زيادة الإيمان في القلب، ولذلك وصفها الله بالآيات وحث فيها على التفكر في خلق السماوات والأرض: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب* الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} (آل عمران:190-191)،{قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} (يونس:101)، {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} (الروم: 8).
وعلامة كون هذا التفكير من النوع الإيجابي الممدوح في الشرع: أنّه مؤسّس على الإيمان بالله تعالى وبنبوّة محمد –صلى الله عليه وسلم-، وبالتالي يكون سبباً في انشراح الصدر وطمأنينة القلب.
سؤال الحكمة غير المقبول
وهو السؤال الذي يصدر غالباً من إنسانٍ ضعيف الإيمان، بعيدٍ عن نور الهدى، أُسّس سؤالُه على أفعالِ الله على وجه الاعتراض، وفي الغالب ما تدور محور هذه الأسئلةِ حول مشيئة الله الكونية.
ونحواً من هذا الفريق: جماعات الباطل المبثوثة بين أوساط الشباب من الملاحدة والنصارى، والذين يقصدون بسؤالاتهم تشكيك المسلمين بربّهم، فينقلوا النقاش من خانةِ الإثبات للربوبيّة أو النبوّة، إلى ساحة الأفعال الإلهيّة، ويجعلون من عدم استطاعة إدراك الحكمة الإلهيّة لفعلٍ من الأفعال دليلاً على عدم وجود تلك الحكمة من حيث الأصل.
وأمثلة ذلك كثيرة جداً، منها على سبيل المثال: "لماذا يعذّب الله الكافر يوم القيامة؟"، "لماذا أوجد الله الحياة على أساس الاختبار والامتحان؟"، "كيف نؤمن بوجود الملائكة والجن بالرغم من كوننا لا نراهم؟"، وغيرِها من الأسئلة التي تشمّ منها رائحة الاعتراض والارتياب.
وغالباً ما يركب كلا الفريقين مركب العاطفة في هذا السياق، فإذا اجتهد من يحاورهم في استجلاب بعض أوجه الحكمة، تجده يبادر بالقول: "هذا الجواب لم يقنعني، هذا كلام الوعّاظ ولا يمكنني أن أتقبّله بسهولة"، فإذا قلت له –إجابةً عن الأسئلة السابقة-: "لأن الكافر مستحقٌّ للعقوبة جزاءً له على أفعاله".."لأنه الفعّال لما يريد".."لأن هذا هو الأساس في الإيمان بالغيب، فإذا أصبح عالم الغيب شهادةً فما الفرق بين المؤمن والجاحد؟" يحيد عن قبول تلك الأجوبة التي يتقبّلها كل مريد للحق، ويريد من محاورِه أن ينساق في تبرير إرادة الله الكونية، والتورّط في الفلسفة والكلام، واستحداث أوجهٍ أخرى قد لا تكون مسلّمةً بالضرورة.
وفي الحقيقةِ فإن هذه أداة إسقاطٍ بامتياز، ومعناها: محاولة تبرير الشكوك والموقف السلبي تجاه الدين بعدم وجود أجوبةٍ تناسبُه حول بعض القضايا، فلذلك فإنه ينتقل في السؤال عن الحكمة الإلهية في الموجودات والأفعال واحدةً تلو أخرى، حتى إذا عجز عن معرفةِ واحدةٍ منها جعلها شمّاعةً له بعدم منطقيّة الدين –بزعمه-.
ولا شكّ أن الفرق بين هذا النوعِ وسابقِه كبير للغاية، من ناحية الثمرة والأثر، فالأول يُثمر إيماناً، وأما هذا النوع: فيزيد السائل رجساً إلى رجسِه، وضلالاً إلى ضلالِه، فلا يمكن أن يكون ممدوحاً بحالٍ من الأحوال.
والحل لمثل هذا النوع من التساؤلات المذمومة حول الحكمة الإلهيّة أن يتّجه السائل إلى أصلِ المسألة، وذلك بأن يستحضر كمال الله في ذاتِه وفي صفاتِه، ولا يُجهد نفسه في البحث عن كمالات أفعال الله لكل فعل، لأنه مؤمن بأصل المسألة: بالحكمة المطلقة، والخبرةِ التامّة، والعلم الكامل: { عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير} (الأنعام:73).
وإذا تأمّل المسلم أن القاعدة الجليلة: "الجهل بالحكمة ليست نفياً لها" توقّفت عنده هذه المتوالية الفكرية من الوساوس والشكوك، فحتى لو لم يعرف المؤمن حكمة الله في خلقِ شيءٍ معيّن أو فعلٍ خاص من الأفعال الإلهيّة، كان جوابُه ببساطة: لأن الله له الحكمة المطلقة علمناها أم لم نعلمها، وله المشيئة التامة لفعل ما يُريد، فهو فعّال لما يريد، لكن أفعاله لحكمة ولا شك في ذلك.
وصدق القائل: "العجب منّا معاشر البشر: نفقد حكمته سبحانه فيما ساءنا وضرنا، وقد آمنا بحكمته فيما نفعنا وسرّنا، أفلا قسنا ما غاب عنا على ما حضر؟ وما جهلنا على ما علمنا؟ أم أن الإنسان كان ظلوماً جهولاً؟".