الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فإن من ميزات هذه الأمة التي تميزت بها عن سائر الأمم ـ إن لم نقل من خصائصها ـ ميزة الحفظ والاستظهار، فكتاب هذه الأمة لم ينزل كما كانت تنزل الكتب السابقة مكتوباً جملة، بل نزل منجماً متلواً في ثلاث وعشرين سنة.
ولحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يضيع منه الوحي كان يحرك به لسانه عند نزوله، حتى أنزل الله عليه: {لاَ تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَينَا جَمعَهُ وَقُرءَانَهُ}، وتعهد الله له بأنه لن ينسى منه إلا ما أراد الله له أن ينساه لكونه نسخ {سَنُقرِئُكَ فَلاَ تَنسَى. إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ}، ومع ذلك فقد كان يدارسه جبريل القرآن كل سنة، ويعرضه عليه، وفي الحديث القدسي أن الله - تعالى - قال له: «... وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان»(مسلم). وفي صفة هذه الأمة في كتب أهل الكتاب: (.. أناجيلهم في صدورهم) (مقدمة النشر لابن الجوزي).
السلف والحفظ:
وقد كان السلف لا يعتبرون الرجل من طلاب العلم ما لم يكن يحفظ ويستظهر، قال عبد الرزاق: (كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فليس بعلم)(الجامع للخطيب:2/ 250)، وأنشد:
ليس بعلم ما حوى القمطر *** ما العلم إلا ما حواه الصدر
وقال هشيم بن بشير: (من لم يحفظ الحديث فليس هو من أهل الحديث، يجيء أحدهم بكتاب يحمله كأنه سجل مكاتب)(الكامل لابن عدي 1/95)، ولمنصور الفقيه:
علمي معــي حيث ما ـ يممــت يتبعني *** بطــني وعـــاء لـه لا جـــوف صـــندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي *** وإن كنت في السوق كان العلم في السوق (جامع بيان العلم :116)
والآثار عن السلف في الحث على الحفظ والتحذير من الاعتماد على الكتب والتدوين في الدفاتر يطول ذكرها، ومن ذلك قول محمد بن يسير الأزدي:
إذا لم تكن واعياً حافظاً *** فجمـعـك للكتب لا يــنــفـع
أشاهد بالعي في مجلس *** وعلمي في البيت مستودع (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/251)
ضوابط للحفظ المتقن:
وإذا أردت أيها الطالب أن تحفظ حفظاً متقناً يبقى معك لفترة طويلة فاتبع الضوابط التالية:
1. اجعل الدرس صفحة من القرآن أو ما يوازيها من غيره إن كان نصاً نثرياً، أو عشرة أبيات على الأقل إن كان نظماً، ولا ينقص درسك عن ذلك، فإن الذي يقلل الدرس جداً يسهل عليه أن يسمعه بعد مراجعته مرات قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهو يظن أنه قد حفظه، ولكن الواقع خلاف ذلك، وأضرب لك مثلاً: إنسان أمرته بحفظ قصيدة معينة فقال لك أسمعها لك بيتين بيتين. إن قبلت له ذلك سوف يسمع لك قصيدة من مائة بيت في نصف ساعة، لأن حفظ بيتين لا يحتاج النظر فيهم أكثر من مرة أو مرتين، أفترى أن مثل هذا حفظ هذه القصيدة ؟ إن أردت الوقوف على الحقيقة فمره بعد فترة وجيزة بتسميع بيتين فقط من هذه القصيدة فلن يستطيع ذلك في الغالب، أحرى أن يسمعها كاملة، ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا الطالب الصغير الذي لا يزال مبتدئاً فلك أن تعطيه آية مثلاً أو آيتين حتى يتدرب على القراءة.
2. راجع هذا الدرس من أوله إلى آخره دفعه واحدة ولا تجزئه تجزيئاً، وليكن لك ورد معين في قراءة الدرس، كأن تقرأه عشرين مرة في الجلسة الأولى مثلاً، وعشرين في الثانية وهكذا.
3. اجعل قراءتك لدرسك نظراً، ولا تجعل منها شيئاً غيباً.
4. اجعل قراءتك بصوت مرتفع فإنه أسرع للحفظ، قال الزرنوجي - رحمه الله -: (وينبغي أن لا يعتاد المخافتة في التكرار؛ لأن الدرس والتكرار ينبغي أن يكونا بقوة ونشاط، ولا يجهر جهراً يجهد نفسه كي لا ينقطع عن التكرار، فخير الأمور أوساطها).
وقال العسكري: حكي لي عن أبي حامد أنه كان يقول لأصحابه: إذا درستم فارفعوا أصواتكم فإنه أثبت للحفظ وأذهب للنوم، وكان يقول: القراءة الخفية للفهم، والرفيعة للحفظ والفهم.
5. لا تحاول أن تغتصب الحفظ اغتصاباً، بل اجعل مراجعتك لدرسك في أوقات متفرقة، فمن كان مثلاً يحفظ الدرس من ستين مرة فليراجعه في اليوم الأول عشرين، والثاني عشرين، والثالث عشرين، وهكذا.
أما أن يجلس الطالب بين المغرب والعشاء مثلاً ليحفظ درساً لم يراجعه قبل ذلك فسوف يجد صعوبة في استظهاره في جلسة واحدة، حتى وإن قرأه مائة مرة، بل قد تكون ستون مفرقة خيراً من مائة في وقت واحد.
وينبغي للطالب في البداية أن يجرب أمر نفسه حتى يعرف كم مرة يحتاج لكي يحفظ الدرس فإن الناس ليسوا سواء، منهم قوي الحافظة والبليد وبين ذلك، فإذا عرف ذلك وزعه على أوراد في أوقات متفرقة.
6. احذر من تجريب الحفظ في كل مرة فإنه مضيعة للوقت من غير طائل، والدرس إن حفظ سوف تشعر بذلك وأنت تقرؤه نظراً.
7. اجعل نهاية درس أمس بداية درس اليوم، فإنك لم إن لم تفعل ذلك فسوف تكون دائماً كلما وصلت إلى نهاية درس توقفت، إن لم تتذكر بداية الدرس الذي بعده.
طريقة أخرى للحفظ:
هذه هي الطريقة المثلى في الحفظ: أن تحفظ الدرس بكثرة التكرار والترديد ويقابلها طريقة أخرى هي التي درج عليها كثير من الطالب اليوم، وأنا أسميها (طريقة الحفظ بالتفكير) ووصف هذه الطريقة كالتالي:
يعمد الطالب إلى الدرس فيكرر الآية الأولى منه أو البيت أو البيتين أو السطر أو السطرين قدراً قليلاً من التكرار لا يتجاوز في الغالب خمس مرات أو عشر مرات، ثم يكرر ما بعده ثم يربط بينهما ثم يكرر الفقرة الثالثة، ثم يربطها بالثانية، وهكذا إلى آخر الدرس. وفيما بين ذلك تراه كل مرة يرفع رأسه يجرب هل حفظ أم لا؟ يحفظ الدرس في جلسة واحدة فهو يغتصب الحفظ اغتصاباً، ثم إذا جاء لعرض الدرس على الشيخ غيباً أكثر التعتعة والتردد وتكرار الآيات والكلمات انتظاراً لتذكر ما بعدها. وإذا كان في درسه غلط أو غلطان أو شك أو شكان اعتبر نفسه حافظاً، بل قد يعتبره شيخه كذلك أيضاً.
وإني لأعرف بعض الشيوخ إن شك الطالب في الدرس أو تردد لم يسمح له أن يمحوه من اللوح في ذلك اليوم، ولا أن يأخذ درساً جديداً حتى وإن رجع وأتقن حفظه وسمعه بإتقان.
وهذا الطالب الذي حفظ بهذه الطريقة لا يستطيع أن يفصل بين حفظه وتسميعه بوقت يسير نحو خمس دقائق، فإذا وجد غيره مثلاً يسمع وأمرته أن ينتظر حتى ينهي زميله لا بد أن يفتح المصحف أو الكتاب حتى يكون آخر عهده به، وإن ذهب لحاجة ثم رجع لا يستطيع أن يبدأ بالتسميع مباشرة حتى يراجع ولو قليلاً، بل إن بعضهم إذا أنهى الدرس ثم أمرته بأن يعيده ساء حفظه في المرة الثانية أكثر من الأولى.
والطالب في هذه الطريقة يعتمد على ذهنه أكثر من تكراره، فهو يعتمد في تسميعه على ضبطه لبدايات الآيات والأسطر والأبيات والصورة المرتسمة للدرس في ذهنه، تلك الصورة التي سرعان ما تذهب أو يذهب بعضها، لذلك فإن هذه الطريقة مرهقة للذهن تجر السآمة والضجر والملل.
وما حفظ بهذه الطريقة سرعان ما يضيع، وإن تركه فترة طويلة كشهر مثلاً ثم أراد أن يعيده كان كأنما يحفظه من جديد.. يقول ابن الجوزي - رحمه الله - في ذلك: (الطريق في إحكام المحفوظ كثرة الإعادة، والناس يتفاوتون في ذلك، فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار، ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير، فينبغي للإنسان أن يعيد بعد الحفظ ليثبت معه المحفوظ، قال: وقد كان خلق كثير من سلفنا يحفظون الكثير من الأمر، فآل الأمر إلى أقوام يفرون من الإعادة ميلاً إلى الكسل، فإذا احتاج أحدهم إلى محفوظ لم يقدر عليه. ولقد تأملت على المتفقهة أنهم يعيدون الدرس مرتين أو ثلاثة فإذا مر على أحدهم يومان نسي ذلك، وإذا افتقر إلى شيء من تلك المسألة في المناظرة لم يقدر على ذلك فذهب زمانه الأول ضائعاً ويحتاج أن يعيد الحفظ لما تعب فيه والسبب أنه لم يحكمه) (الحث على حفظ العلم لابن الجوزي:12).
ثم ليعلم الطالب أنه إذا لم يكن له ورد من مراجعة محفوظه فسوف يضيع، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [تعاهدوا هذا القرآن فلهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها](مسلم). وقديماً قيل: آفة العلم النسيان. وخاصة إذا كان حفظاً جديداً، فليجعل درسه الذي حفظ ورداً من المراجعة في اليومين الذين بعد يوم حفظه حتى يثبت حفظه ويرسخ، وقد ذكر لي أحد الطلاب أن طالباً سأل بعض المشايخ كيف يثبت حفظه، فقال: ما حفظت به الدرس من تكرار اضربه في عشرة ثم كرره قدر ذلك فلن يضيع منك.
قال الزرنوجي: «وينبغي لطالب العلم أن يَعُد ويقدر لنفسه تقديراً في التكرار، فإنه لا يستقر في قلبه حتى يبلغ ذلك المبلغ، وينبغي لطالب العلم أن يكرر سبق الأمس خمس مرات، وسبق اليوم قبل أمس أربع مرات، والسبق الذي قبله ثلاث مرات، والذي قبله اثنين، والذي قبله مرة واحدة، فهذا أدعى للحفظ»( الحث على الحفظ لابن الجوزي ص12). قلت: وهذا قريب من طريقة طلاب المحاضر.
وحكى الحسن عن أبي بكر النيسابوري أن فقيهاً أعاد الدرس في بيته مراراً كثيرة، فقالت عجوز في بيته: قد والله حفظته أنا! فقال: أعيديه. فأعادته، فلما كان بعد أيام قال: يا عجوز أعيدي ذلك الدرس. فقالت: ما أحفظه. فقال: أنا أكرر الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك.(السابق).
قال الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -: (الغالب أن من حفظ سريعاً بدون تكرار فإنه ينسى سريعاً، ولقد كان الكثير من الطلاب قديماً يكرسون جهودهم في الحفظ، حتى كان أحدهم يقرأ الحديث أو الباب مائة مرة حتى يرسخ في ذاكرته، ثم بعد ذلك يكرر ما حفظ) اه.
فإذا حفظ الإنسان حفظاً متقناً على ما بينا وراجع محفوظه المراجعة التي ذكرنا فإنه في الغالب لا يكاد يضيع منه ما حفظ، وإن ضاع استعاده بأدنى مراجعة، فهذا عاصم بن أبي النجود يقول: (مرضت سنتين فلما قمت قرأت القرآن فما أخطأت منه حرفاً) (سير أعلام النبلاء 5/258).
بقي أن نقول: إن هذا الذي نذكره هو أمور أغلبية لا قواعد كلية، فقد يكون بعض الناس حفظ بالطريقة الثانية التي وصفنا، وحفظه جيد ومتقن لأحد سببين:
1. إما لقوة حافظته فإن من الناس من أعطاه الله موهبة في الحفظ وسرعة حتى إنه ليحفظ من المرة الواحدة، فمثل هذا ليس كلامنا موجهاً له، وكما تقدم فإن على الطالب أن يختبر نفسه في أول أخذه في الحفظ حتى يعرف قدر نفسه وطاقتها، وكم مرة تحتاج من التكرار حتى تحفظ.
يقول الخطيب البغدادي رحمه الله: (اعلم أن القلب جارحة من الجوارح تحتمل أشياء وتعجز عن أشياء كالجسم الذي يحتمل بعض الناس أن يحمل مائتي رطل ومنهم من يعجز عن عشرين رطلاً، وكذلك منهم من يمشي فراسخ في يوم ولا يعجزه، ومنهم من يمشي بعض ميل فيضر ذلك به، ومنهم من يأكل الطعام أرطالاً، ومنهم من يتخمه الرطل فما دونه، فكذلك القلب؛ من الناس من يحفظ عشر ورقات في ساعة، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام، فإذا ذهب الذي مقدار حفظه نصف صفحة يروم أن يحفظ مقدار عشر ورقات تشبهاً بغيره لحقه الملل وأدركه الضجر ونسي ما حفظ، ولم ينتفع بما سمع، فليقتصر كل امرئ من نفسه على مقدار يبقى فيه ما لا يستفرغ كل نشاطه فإن ذلك أعون له على التعليم، من الذهن الجيد والمعلم الحاذق (الفقيه والمتفقه: 2/107).
2. وإما لأنه يصحب ذلك بكثير من التكرار، فإن بعض الناس يقطع درسه آية آية أو بيتاً وبيتاً... ولكنه يكرر كل بيت مائة مرة مثلاً ثم الذي بعده كذلك ثم يكررهما جميعاً مثل ذلك، فمثل هذا سوف يتقن ولا شك.
وإنما حذرت من تقطيع الدرس لأن الطالب إذا كرر القطعة من الدرس قليلاً وجد أنه قد حفظها، ولا داعي في نظره لزيادة التكرار، وإلا فالمهم كثرة التكرار على أي وجه حصلت.
من أسباب الحفظ:
وفي الختام أوصي الطالب باتباع أهم أسباب الحفظ، وهي:
1- الإخلاص.
2- الدعاء، فإن الإنسان متى أنزل حاجته بالله - سبحانه وتعالى - استجاب له وفتح عليه، قال الله - تعالى -: {وَقَالَ رَبٌّكُمُ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم}. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "شربت زمزم مرة وسألت الله وأنا حينئذ في بداية طلب الحديث أن يرزقني حالة الذهبي في حفظ الحديث، ثم حججت بعد مدة تقرب من عشرين سنة، وأنا أجد من نفسي المزيد على تلك المرتبة، فسألته أعلى منها، فأرجو الله أن أنال ذلك". (ماء زمزم لما شرب له لابن حجر:37).
3- ترك المعاصي: فإن من أهم الأسباب المعينة على الحفظ اجتناب المعاصي وعمل الإنسان بما علم، والآثار عن السلف في ذلك كثيرة، منها قول ابن مسعود رضي الله عنه-: (إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها)
وللشافعي - رحمه الله -:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال بأن حفظ الشيء فضل *** وفضل الله لا يهدى لعاصي. (الجامع لأخلاق الراوي 2/258)
وقال الضحاك بن مزاحم: ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يحدثه، لأن الله - تعالى –يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ, فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم}(فضائل القرآن لابن كثير:138)، وقال الشعبي - رحمه الله -: (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به)(جامع بيان العلم:291)، وقال الثوري: (يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل) (السابق).
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: (ومن الطرق التي تعين على حفظ العلم وضبطه أن يهتدي الإنسان بعلمه، قال الله - تعالى -: {وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدىً وَآتَاهُم تَقوَاهُم}، وقال: {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهتَدَوا هُدىً} فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظاً وفهماً لعموم قوله: {زَاَدَهُم هُدىً}).
4- اختيار الوقت المناسب: فقد قال الخطيب البغدادي - رحمه الله -: (اعلم أن للحفظ ساعات ينبغي لمن أراد الحفظ أن يراعيها، فأجود الأوقات الأسحار، ثم بعدها وقت انتصاف النهار، وبعدها الغدوات دون العشيات، وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار، قال: وإنما اختاروا المطالعة بالليل لخلو القلب، فإن خلوه يسرع إليه الحفظ، ولهذا قال حماد بن زيد لما قيل له: ما أعون الأشياء على الحفظ؟ قال: قلة الغم. وليس يكون قلة الغم إلا مع خلو السر وفراغ القلب، والليل أقرب الأوقات من ذلك) (الفقيه والمتفقه 2/103).
5- الحفظ في الصغر: قال قتادة - رحمه الله -: (الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر). وقال معمر: (سمعت من قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة، فما شيء سمعت من تلك السنين إلا وكأنه مكتوب في صدري) (سير أعلام النبلاء 7/6).
6- الاهتمام: فإن من أعون الأشياء للطالب على الحفظ أن يجعل ما يريد أن يحفظه حل همه وحديث نفسه، قال الإمام البخاري - رحمه الله -: (لا أعلم شيئاً أنفع للحفظ من نهمة الرجل ومداومة النظر) ثم قال: (وذلك أني كنت بنيسابور مقيماً فكان ترد إلي من بخارى كتب، وكن قرابات لي يقرئن سلامهن في الكتب فكنت أكتب كتاباً إلى بخارى وأردت أن أقرئهن سلامي فذهبت على أساميهن، حين كتبت كتابي، ولم أقرئهن سلامي، وما أقل ما يذهب عني من العلم) (سير أعلام النبلاء 12/406).
والبخاري هو القائل: (تذكرت يوماً أصحاب أنس فحضرني في ساعة ثلاثمائة نفس)(هدي الساري:488)، ولما قيل له: أنت الذي تقول إني أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم، وأكثر، ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرفتك بمولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم)(الحث على طلب العلم لابن الجوزي:68).
7- الصبر في البداية: على ما يصيب الطالب من صعوبة الحفظ والسآمة والملل، فإنه ما يلبث أن يزول ذلك عنه ويتعود الحفظ، ويسهل عليه، يقول محمد بن شهاب الزهري - رحمه الله -: (إن الرجل ليطلب وقلبه شعب من الشعاب، ثم لا يلبث أن يصير وادياً لا يوضع فيه شيء إلا التهمة) (السابق:71). وقال العسكري - رحمه الله -: (مصداق ذلك ما أخبرنا الشيخ أبو أحمد الصولي عن الحارث بن أسامة قال: كان العلماء يقولون: كل وعاء أفرغت فيه شيئاً فإنه يضيق إلا القلب، فإنه كلما أفرغ فيه اتسع، قال: وكان الحفظ يتعذر علي حين ابتدأت، ثم عودته نفسي إلى أن حفظت قصيدة قريبة من مائتي بيت في ليلة) (السابق).