لم تدع السنة النبوية في تشريعاتها المُحْكَمة منطقةً خاليةً من الأحكام، بل اهتمت بأحكام أحوال المكلفين كلها في عباداتهم ومعاملاتهم، بياناً وتفسيراً بل وتأسيساً أحياناً، ففي المعاملات أحاديث مشتملة على أحكام خاصة تختص بمسألة معينة، وأحاديث هي بمثابة القواعد العامة التي تعد من أصول أبواب المعاملات بحيث يرد إليها كثير من المعاملات بين الناس.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله». رواه مسلم.
موضوع هذا الحديث: النهي عن بيع ما لم يقبض، وهذه المسألة من المسائل التي يعم الحاجة إليها، ويكثر السؤال عنها، سيما وقد تجددت من أنواع المعاملات، وتعددت صنوف المبيعات، وتغيرت الأعراف والعادات.
والحديث نص في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، ولا خلاف في ذلك، وأما غير الطعام من السلع فحصل الخلاف في إلحاقه بالطعام وعدم إلحاقه، فمذهب الشافعي وغيره إلحاقه، وهو مروي عن ابن عباس -رضي الله عنه- فقد قال كما في البخاري: «وأحسب كل شيء مثلَه»، ولا شك أن فهم الصحابي له اعتبار قوي في الترجيح في مسائل الخلاف.
ويدل لهذا القول حديث -عبدالله بن عمرو- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحل سلفٌ وبيع ...ولا ربح ما لم يَضمن ».رواه أحمد في المسند.
ومعنى قوله: «ولا ربح ما لم يضمن» يعني لا يجوز أن يأخذ ربح سلعة لم يضمنها، مثل أن يشتري متاعا ويبيعهَ إلى آخر قبل قبضه من البائع، فهذا البيع باطل وربحه لا يجوز، لأن المبيع في ضمان البائع الأول وليس في ضمان المشتري منه لعدم القبض, كما ذكره في عون المعبود.
إضافة إلى ورود النهي بلفظ السلع في سنن أبي داود وحسنه الألباني عن ابن عمر , قال: ابتعت زيتا في السوق, فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا, فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت إليه فإذا زيد بن ثابت , فقال: لا تبعه حيث ابتعتَه حتى تحوزه إلى رحْلِك , فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «نهى أن تباع السلع حيث تُبتاع حتى تَحُوزها التجار إلى رحالهم».
ومن حججهم: أنه إذا منع البيع قبل القبض في الطعام مع الحاجة إليه فغيره من باب أولى.
ومن حيث التعليل قالوا: إن المنع من البيع قبل القبض لعلة شبهة الربا؛ لأنه يؤدي إلى أن يشتري منه دينارًا بدينارين، ومثاله: أن يشتري منه طعامًا بدينارين إلى أجل، ثم يـبيعه قبل أن يقبضه بدينار، فصار كبيع دينار بدينارين، وهذه العلة موجودة في غير الطعام.
ومما ذكروه في علة الحديث: أن العقد على المبيع قبل قبضه من البائع الأول ربما سبب فسخ العقد الأول، فاٍن كان بخسارة، حاول المشترى الفسخ، وإن كان بربح، حاوله البائع.
والمشهور من مذهب الإمام مالك تخصيص النهي بما ورد في الحديث وهو الطعام، وجوازه فيما عداه، وحجتهم مفهوم الحديث ومنطوقه، فالمنطوق منعه في الطعام، والمفهوم جوازه فيما عداه، وتبقى المسألة فيما عدا الطعام من مسائل الخلاف بين الفقهاء.
ومما تجدر الإشارة إليه أن حقيقة القبض من المسائل التي تخضع للعرف، وهي في كل سلعة بحسبها، فقد يكون القبض حقيقيا بقبضه باليد، أو بالحيازة أو بالتخلية، وقد يكون القبض حكميا كقبض الوثائق والسندات في الوقت الحاضر وهكذا.
قال النووي في بيان حقيقة القبض: القول الجملي فيه: أن الرجوع فيما يكون قبضا إلى العادة، ويختلف بحسب اختلاف المال، فإن كان المبيع من المنقولات، فالمذهب والمشهور: أنه لا يكفي فيه التخلية، بل يشترط النقل والتحريك. أ.هـ.
وقال ابن قدامة : قبض كل شيء بحسبه، فإن كان المبيع دراهم أو دنانير، فقبضها باليد، وإن كان ثيابا فقبضها نقلها، وإن كان حيوانا، فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان مما لا ينقل ويحول، فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه، لأن القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا. أ.هـ.