الوعي هي عملية مستمرة ترافق الإنسان من المهد إلى اللحد، تتبدل وتتغير أفكار الإنسان نحو الأشياء والأشخاص والأفكار، يقترب ويبتعد عن بعض الأفكار حسب الظروف النفسية والوجدانية والمدخلات الثقافية التي تشكل وعينا بما حولنا من كل هذه الأشياء. في كثير من الأحيان نُطلق أحكاماً على أمور وأفكار وأشياء بناء على مجرد انطباع أولي رافق النظرة واللحظة الأولى لسماع او مشاهدة أو القراءة عن تلك الفكرة. في فضائنا المحلي هناك أزمة وعلة فكرية، هي ناتجة لظروف كثيرة منها بؤس النظام التعليمي، وتدني معدلات القراءة، وضحالة الوسائط الثقافية من التلفزيون والصحف والمجلات. هذه المدخلات بشكل أو بآخر تؤثر سلباً وإيجاباً في تحديد مصائر الوعي الفردي والاجتماعي.
العقل يتغذى على المعلومات والأفكار، وأيضا العقل يتمرن على أساليب ومهارات هي أهم وأسمى من المعلومات، حيث أن مناهج التفكير وطرق نقد الأفكار وقراءتها قراءة نقدية فاحصة منطقية تعتبر من أساسيات بناء العقل في أي مجال، فضلا عن مجال الحياة الأوسع، فكما أن التخصصات العلمية والأدبية وحتى الدينية لديها طرق وأساليب لتقوية العقل وتمرينة على إخضاع المعلومة والنص والفكرة لعملية نقدية تساعد على فحصها وتجريدها والدخول إلى أعماقها، فكذلك هو الشأن في باقي تفاصيل الحياة، ومن له حظ في امتلاك هذه المهارة العقلية فهو لا تنطلي عليه الكثير من الأفكار والأخبار والأحداث التي تعرض في الفضاء العام...
بكل أسف نقول أن النظام التعليمي الأساسي وكذلك الجامعي بما فيه برامج الدراسات العليا المحلية، لم تنجح في بناء العقل عبر تعليمه أساليب نقدية في القراءة والكتابة وعرض المعلومة، بل إن العملية التعليمية هي عملية تلقينية وتعتمد على الذاكرة في حفظ المعلومة واسترجاعها بدلاً من التفكير فيها. وهذه علة بَيَّنَة لكل من يعرف نظامنا التعليمي.
العالم يتجه نحو الاستفادة من الأبحاث الحديثة عن الدماغ وعلم الأعصاب وتسخيرها في محاولة للاستفادة منها في بناء مناهج تعليمية نافعة للعقل، وللأسف نحن في أخر قطار الترتيب العالمي في التعليم كنتيجة طبيعية لاغتيال العقل وتجاهل المعرفة.
إنها حالة من البؤس تتجلى أن الطالب كل ما تقدم في سنوات التعليم كلما قلت قدراته العقلية والذهنية كنتيجة طبيعة لهذا المنتج التعليمي.
مخرجات التعليم التي لا تجعل من عملية القراءة نمطاً أساسياً سوف تُؤثر على كافة الأعمال والقطاعات والمؤسسات والمشاريع، حيث يُخرج التعليم لدينا أقل من نصف متعلم، شخص يحمل شهادة لكن لا يفقه شيئا ولا يستطيع أن يقدم جديداً ولا يصلح أدنى مشكلة.
هناك بلا أدنى شك محاولات للتطوير الذاتي من قبل البعض على المستوى الشخصي والمؤسسي والعائلي، لكن هذه المحاولات محدودة وعلى شريحة صغيرة في المجتمع، وكذلك لا تمتلك الأدوات الكافية للتطوير، لكن مساهمة في سد الفجوة في أحسن الأحوال.
تشير بعض استطلاعات الرأي أن الإنسان العربي يقرأ ربع صفحة في العام الواحد، وهذه ليست معلومة صادمة لمن يعرف المجتمع، حيث أن القراءة "قراءة الكتب والمجلات الهادفة والمتخصصة" هي نوع من الترف الثقافي في نظر الكثير، وكثير يرون بقناعة راسخة من كافة الفئات العمرية أن القراءة هي فقط للضرورة كالتعليم وقراءة الأوراق اللازمة للعمل! البعض من العرب لم يمتلك في حياته كتاباً واحداً فضلا عن زيارة للمكتبة لشراء الكتب أو على الأقل تصفحها.
تعود العلة أن القراءة هي ممارسة ثقافية وسلوك يترسخ عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية "المنزل، المدرسة، المسجد، الإعلام" حيث أن هذه المؤسسات الطبيعية لم تحاول في يوم ما أن يكون لها من الحرص على تكريس هذا السلوك إلا ما ندر بدليل أن أغلب المنازل العربية خاوية من الكتب، وكذلك المدارس لا توجد بها مكتبات فضلا أن يكون لها برامج دورية للطلبة، وأما الإعلام فدوره في العالم العربي في أغلب الأحيان هو ترسيخ التفاهة عبر برامج لا تسمن ولا تغني من جوع.
قبل عدة سنوات كتب الأستاذ ياسر حارب مقالاً يصف الإشكالية الأساسية في العالم العربي بعنوان (من يقرأ الكتب ومن يقرأ الفنجان) يصف الأزمة العربية مقارنة مع برامج القراءة الوطني لدولة سنغافورة، حيث يشير 'ستامفورد رفلز' مؤسس سنغافورة "إن التعليم يجب أن يتسابق مع التجارة حتى يتوازن الخير مع الشر". هكذا هي النظرة لعملية القراءة قبل أكثر من مئة عام، والآن هذه الدولة من نمور القارة الآسيوية وتنافس في كافة المجالات و تحظى باستقرار اقتصادي وثقافي، والسبب عملية القراءة دعمت من قبل مؤسسات الدولة كرافد للتنمية وأداة للوعي..
كم من الدول العربية لها مثل هذا الحظ من الرعاية لعملية القراءة، ربما يكون مشروع كتاب عالم المعرفة هو الرائد في المنطقة العربية عبر رعاية ودعم من قبل المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب هو أهم مشروع عربي في الترويج للقراءة حيث تقدم للقارئ العربي مطلع كل شهر كتاباً حديثاً وفي كثير من الأحيان يكون الكتاب ترجمة لإصدار حديث في موضوع مهم.
.. و من أسباب أن مصادر الوعي لدينا هي درجة دنيا، هو أن الوسائط الثقافية من تلفزيون وصحف ومجلات يغلب عليها للأسف ضحالة المحتوى الغير هادف للجمهور، حيث أن القنوات الفضائية مشغولة بالأعمال الدرامية المملة والبرامج الحوارية "السامجة" وتتجلى الأعمال التلفزيونية في رمضان كشهر تبلغ المشاهدات نسبة أعلى من باقي السنة، لكن يبقى المحتوى للأسف صادم وغير هادف ولا توجد له إلا فكرة واحدة هي تكريس التفاهات في عقل المجتمع. حيث تتسابق البرامج الحوارية على إستضافة المغنين والممثلين أكثر من المفكرين والعلماء والمؤثرين في المجتمع من اقتصاديين وسياسيين وأدباء.
الأسباب السابقة هي مؤشرات على إشكاليات أصابت الوعي في مقتل، حيث جمد العقل واغتيل ويُغتال في كل مرة، بين ضجيج الأحداث، وموت ممنهج للعملية التعليمية البائسة .. بل إن ما أصاب الإنسان من التعليم أكثر مما أفاده في كثير من الأحيان، وهذا يتجلى في المنتج التعليمي، سنوات من الضياع وتبذير الجهود في عمل يحتاج لجهد كبير في المعالجة وإصلاح طرق التعليم والمحتوى.
وكذلك عملية القراءة هي كما أشرنا أن المجتمع ينظر لها أنها ترف متكلف من قبل البعض، والمحاولات الحالية لتصحيح الفكرة أن أمة "إقرأ" لا تقرأ هي أقل من متواضعة، فمن الطبيعي أن نكون على قدر من التخلف والتبعية الاقتصادية والسياسية وكذلك الثقافية مالم يتغير سلوكنا الحياتي والثقافي نحو مفهوم القراءة. وأخيراً، حال المدخلات الثقافية من وسائط تلفزيونية وصحفية هو بئيس باستثناءات بعض القنوات الفضائية العربية المحترفة وبعض المجلات الشهرية.
أسوء مافي الأمر أن عدم الاهتمام بمصادر الوعي آل إلى مصير قاتل للإنسان وعقلة في كل شيء ثقافياً وسياسياً ودينياً واقتصادياً وفِي كافة مجالات الحياة، حيث كل ما حولنا هو مرتبط بدرجة ما من الوعي وعلى قدر اكتسابنا لهذا الوعي يتحقق التقدم المعرفي والصناعي والاقتصادي وغيرها في كافة المجالات.
أعز ما يملك الإنسان هو عقله، وهذا العقل يحتاج للعناية المستمرة والمراجعة والتطوير من حين إلى آخر، نتمنى أن تحظى الأجيال الحالية والقادمة بشيء من الوعي عبر إصلاح المنظومات الأساسية الداعمة لها.
- الكاتب:
الأستاذ/هاشم الرفاعي - التصنيف:
المركز الإعلامي