الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قال كعْب : لبَّيْك يا رسول اللَّه

قال كعْب : لبَّيْك يا رسول اللَّه

قال كعْب : لبَّيْك يا رسول اللَّه

أمرنا الله عز وجل بطاعة نبينا صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة في كل ما أمر به أو نهى عنه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(النساء:59) قال ابن القيم في هذه الآية: "أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً، سواء كان ما أمر به في الكتاب أوْ لم يكن فيه، فإنه أُوتِىَ الكتاب ومثله معه"، وقال الشنقيطي في "أضواء البيان": "كرر الفعل بالنسبة لله وللرسول، ولم يكرره بالنسبة لأولي الأمر، لأن طاعتهم لا تكون استقلالًا، بل تبعًا لطاعة الله، وطاعة رسوله، كما في الحديث: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وقال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر:7): "أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر".

وقد حرص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على المسارعة إلى طاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن خالفت النفس والعقل، والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف الدالة على ذلك، ومنها موقف كعب بن مالك مع ابن أبي حَدْرَدٍ رضي الله عنهما، وقول كعب: (لبيك يا رسول الله).
عن كعب بن مالك رضي الله عنه: (أنه تَقاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْناً كان له عليهِ، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتُهُما، حتى سمِعَها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى كشفَ سِجْفَ (سِتْر) حُجْرَتِهِ، ونادَى: يا كعْبَ بن مالِكٍ، يا كعْب، قال: لبَّيْك يا رسول اللَّه، فأشار بيدِه أَنْ: ضَعِ الشَّطْرَ (النصف) من دَيْنِكَ، قال كَعْبٌ: قدْ فعَلْتُ يا رسولَ الله، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: قُمْ فاقْضِه) رواه البخاري.

وفي هذا الموقف النبوي مع كعب بن مالك رضي الله عنه الكثير من الفوائد، ومن ذلك:

ـ طاعة الصحابة المطلقة للنبي صلى الله عليه وسلم، والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعب بن مالك رضي الله عنه أن يضع النصف من دَينِه الذي كان له عند أبي حدرد، فعل كعب رضي الله عنه ذلك على الفور، دون تردد أو مناقشة الأمر أو مراجعته، وقال ابتداء: (لبيك يا رسول الله)، ثم قال: (قدْ فعَلْتُ يا رسولَ الله)، مما يشير إلى أنه رضي الله عنه قد أطاع الأمر قبل سماعه أو حتى صدوره، وهذا من علامات الطاعة المطلقة من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لم يجادل كعب رضي الله عنه في الأمر، بل إنه رضي الله عنه لم يقل سأفعل، لكنه قال: (قد فعلتُ) بصيغة الماضي، وفي ذلك مبالغة في سرعة طاعته وامتثاله لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. قال القسطلاني: "(لبيك يا رسول الله).. ومعناه أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة.. (قد فعلتُ يا رسول الله) ما أمرتَ به، وخرج ذلك منه مخرج المبالغة في امتثال الأمر".
وقال الهروي في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "(دَيْناً له عليه): أي طلب كعب قضاء الدَيْن الذي كان له على ابن أبي حدرد، (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) : أي في زمانه.. (فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم): أي متوجها إليهما ومقبلا عليهما، (حتى كشف): أي: إلى أن رفع (سجف حجرته): أي سترتها، وهو بكسر السين وفتحها وإسكان الجيم لغتان، والأول أصح.. قال كعب: (قد فعلت): أي امتثلت أمرك (يا رسول الله) : فيه مبالغة في امتثال الأمر.. قال الطيبي: في الحديث جواز المطالبة بالدَيْن في المسجد، والشفاعة إلى صاحب الحق، والإصلاح بين الخصوم، وحسن التوسط بينهم، وقبول الشفاعة في غير معصية، وجواز الاعتماد على الإشارة وإقامتها مقام القول، لقوله فأشار بيده أن ضع الشطر".
وقال ابن بطال في شرح صحيح البخارى: "فيه: المخاصمة فى المسجد فى الحقوق والمطالبة بالديون.. قال المهلب: وفيه الحض على الوضع عن المُعْسِر.. وفيه: أن الإشارة باليد تقوم مقام الإفصاح باللسان إذا فهم المراد بها.. وفيه: إنكار رفع الصوت بالمسجد بغير القراءة، إلا أنه عليه الصلاة والسلام، لم يعنفهما على ذلك..".

ـ قد يقع بين ومِن الصحابة رضي الله عنهم الخطأ، مثل ما حدث في هذا الحديث بين كعب بن مالك وابن أبي حدرد رضي الله عنهما من التخاصم على أداء الدَيْن، ورفع الصوت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإنهم ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ في الجملة أفضل الخلق بعد الأنبياء والرسل، سواء منهم من تقدم إسلامه ومن تأخر، ومن هاجر ومن لم يهاجر، ومن اشترك في الغزوات ومن لم يشترك، فهذه الأفضلية والعدالة لهم جميعا تضافرت عليها الأدلة من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، فكلهم ثقات عُدول بإجماع المسلمين، وذلك لِمَا أثنى الله تعالى في كتابه الكريم عليهم، ونطقت به الأحاديث النبوية في مدحهم وعدالتهم، وأنهم خير الأجيال وأفضل القرون، وعلى تحريم الطعن فيهم، قال ابن عبد البر: "قد كُفِينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول"، وقال ابن الصلاح في مقدمته: "ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتنة منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يُعْتد بهم في الإجماع، إحسانًا للظنِّ بهم، ونظراً إلى ما تمهَّد لهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة"..
لكنهم مع ذلك ـ الصحابة رضوان الله عليهم ـ بَشرٌ من البَشَر، غير معصومين بالاتفاق، والعصمة غير العدالة، فليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من الخطأ، فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم، وما ورد في حق بعض أحدهم من خطأ، فالواجب إحسان الظن به، ومعرفة أن ذلك لا يخرجه عن حدِّ العدالة والرضى، قال ابن تيمية: "وأهل السنة تحسن القول فيهم (الصحابة) وتترحم عليهم وتستغفر لهم، لكن لا يعتقدون العصمة من الإقرار على الذنوب وعلى الخطأ في الاجتهاد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَنْ سواه فيجوز عليه الإقرار على الذنب والخطأ، لكن هم كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ}(الاحقاف:16)".

السيرة النبوية حافلة بالأمثلة التي تصور مدى حرص الصحابة رضوان الله عليهم على طاعة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ومسارعتهم إليها، دون ريب أو تردد أو حرج، ولو كانت هذه الأوامر مخالفة للنفس أو العقل، كما فعل كعب بن مالك رضي الله عنه مع ابن أبي حدرد، وهذا من الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب:36)، قال السعدي في تفسيره: "أي: لا ينبغي ولا يليق، ممن اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} من الأمور، وحتَّما به وألزما به {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، أن الرسول أوْلى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجاباً بينه وبين أمر الله ورسوله"، وقال الطبري: "يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدي والرشاد"، وقال ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين": "رأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة