ظُلِم رجلٌ في أيام الجاهلية، وبخس حقه، وماطله غريمه، فشكا إلى بعض قبائل قريش والأحلاف فلم يلتفتوا إليه، وهو رجل غريب قدم من زبيد إلى مكة، فوقف عند الكعبة، واستصرخ الناس، واستنصرهم، وأخذ ينشد أبياتا منها:
يَا آلَ فِهْـرٍ لمَظْلُــومٍ ـبِضَـاعـتُهُ *** بِبَطْـنِ مَـكَّةَ نائي الـدارِ والنَّـفَـرِ
وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ *** يَا لَلرِّجالِ وبَين الحِجْرِ والحجَرِ
إنَّ الحـرامَ لـمـن تمَّتْ كـرامـتُه *** ولا حــرامَ بثـوبِ الفاجـرِ الغُدَرِ
فأثار هذا الشعر نخوة ذوي المروءة والإنسانية من قريش، وأولهم الزبير بن عبد المطلب عم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فنادى زعماء قريش فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وذلك قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد حضره معهم وهو غلام، فنصروا ذلك المظلوم الغريب، فتعاهدوا فيما بينهم أن لا يروا مظلوما إلا نصروه، ولا مسلوبَ حَقٍّ إلا أعادوا إليه حقه.
إنه موقف إنساني عادل، وكرم أخلاقي شامخ، وشيمة عربية أصيلة؛ ولقد غرس هذا الموقف النبيل في وجدان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يشيد به، ويثني عليه، بل يقول: "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أن لي به حمر النَّعَم, ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" (أخرجه البيهقي).
إن الظلم والجوْرَ والحيف والقهر والبخس والمطل والقسوة والكبر؛ صفات ماحقة، وأخلاق مهلكة، تورث العقوبة، وتستمطر الغضب، وتتلف الأعصاب، وتمض الأفئدة، وتمزق المجتمع، وتخل بالأمن، وتحبب الانتقام، وتنافي الإنسانية، وتفني المروءة؛ ثم إلى جهنم، وبئس المصير! وإن الله تعالى يخذل الظالم ولو كان مسلما، وينصر المظلوم ولو كان كافراً.
ولقد أصبحنا في هذا الزمن نرى ونسمع ونقرأ كثيرا من قصص الظلم، وعدداً من صنوف القهر، وألواناً من مشاهد البخس والمطل والقسوة، وذلك مع العمال والخدم بالدرجة الأولى، وقد قرأنا في الصحف قصصا كلها تستثير المشاعر، وتهز الوجدان، وتلهب الضمائر.
إحداها قصة عامل أنقذ من الموت في اللحظات الأخيرة؛ إذ أقدم على الانتحار وغرس السكين في عنقه، فأخذ يتشحط في دمه، إلا أنه رُؤي فأُنقذ ونجا من الموت، وتبين أن السبب في ذلك هو عدم إعطائه مرتباته، فقد كان يعمل لشهور عديدة، ورفض صاحب العمل صرف رواتبه له، فلم يهتد إلى نصير أو معين، وألهبت قلبه نيران القهر، فلم يجد أمامه إلا أن يريح نفسه بالخلاص منها، والعياذ بالله!.
وهناك قصص لخادمات انتحرن إما شنقا وإما بإلقاء أنفسهن من عمائر شامخة، وذلك للأسباب نفسها من البخس والقهر وسوء التعامل، إن مثل هذه القصص نذير شَرٍّ،وعقوبة وانتقام؛ لأن الظلم أقبح الذنوب وأخطرها، والسماوات والأرض إنما قامت على العدل، والله تعالى قد أقسم أن ينصر المظلوم ولو بعد حين.
إنها حوادث ومخاطر تستلزم هَبَّات إنسانية، ووقفات إيمانية، وذلك بالتحذير منها، وبيان خطرها، وتوعية الناس بفظاعتها، وهتك أستار من يتعامل بها، والوقوف مع المظلوم، والمناصرة للمهضوم؛ إن هذه المعاملة القاسية، والتصرفات الدنيئة، تجمع أقبح الذنوب، وأبشع المعاصي، إذ يجتمع فيها الظلم، والبخس، وأكل المال بالباطل؛ وهي جميعاً موبقات ماحقة، وكبائر مهلكة.
إنَّ دينَ الإسلام دينُ العدلِ والفضل، والإحسانِ والمساواة، يرتقي بالشعوب، ويهذِّب القلوب، ويحفظ الكرامة؛ وإنه -قبل أن تكون هنالك نقابات للعمال، وقبل أن تتفجر الثورات لأجلهم- كان الإسلام يهتف بحقوق العمال، ويأمر بالعدل، ويحذر من الظلم، ويكسر أغلال العبودية والذل، إلا لله وحده.
جاء الإسلام ليقول: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ جاء الإسلام ليقول: إن المتكبرين أحقر الناس وأذلهم يوم القيامة، إذ يغدون كأمثال الذر يطؤهم الناس، ثم لا يجدون ريح الجنة.
جاء الإسلام ليقول: إن من اقتطع شيئا من مال أخيه بغير حق فإنما أكل نارا، وجهنم أولى به. جاء ليقول: "يا أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام". جاء ليقول: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أسود على أبيض، إلا بالتقوى".
جاء ليقول {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود:81)، جاء ليقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة:2)، إلى غير ذلك من روائع الأدب والأخلاق التي حفظها الإسلام، وأمر بامتثالها، وحذر من مخالفتها، بل ضرب المثل البين الواضح للناس بأن أخبر أن الله تعالى أدخل امرأة النار في هرة عذبتها، وأدخل امرأة زانية الجنة في كلب سقته، هذا مع الحيوانات، فكيف بالإنسان عموما؟ وكيف بالمسلم خصوصا؟.
أيها المسلمون: لقد تفشت في بعض المجتمعات المسلمة ظاهرة هضم العمال، وأكل حقوقهم، وبخس الخدم، وإهدار كرامتهم، وإنها أمور لا تدل إلا على غياب الإيمان، وضياع الإسلام، وانحطاط الإنسانية، وهمجية السلوك في قلوب فئام من الناس.
وإن هنالك عدة مظاهر لهذا الظلم والحيف التي يجب التحذير منها، والتنبيه إليها، ومن أهمها:
- انتقاص العُمَّالِ والخدم، والنظرة الدونية إليهم، وعدم مجالستهم ومؤاكلتهم ومخالطتهم، وهذا مظهر من مظاهر الكبر التي تقطع الطريق إلى الجنة.
إن الإسلام أخبر أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن الفرق والتمايز بالتقوى فقط، وأن العامل ورب العمل هم إخوة في الدين والإيمان، وأن هذه طبيعة الحياة بأن يسخَّر أحدهما لآخر، قال تعالى:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (الزخرف:32).
فليس في الإسلام طبقية، أو تمييز لفئة على أخرى، وأين نحن من محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يحب المساكين، ويجالسهم، ويأنس لهم، ويقول: "ابغوني ضعفاءكم؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" (أخرجه الترمذي وصححه).
- عدم الوفاء بالعقود والعهود معهم: قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (المائدة:1)، وقال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } (الأعراف:85)، فإن هنالك كثيراً من الناس يأتي بعمال وموظفين وقد أبرم معهم اتفاقيات معينة، وتعاهدوا عليها، ثم يغدر به، أو يظلمه، أو ينقص من أجره، ويجري عليه ضغوطا كثيرة تجعله يرضخ ويستسلم، لكن قلبه وفؤاده ومشاعره تغلي نارا للقهر والغدر وانتهاك الحق، ونكث الميثاق، فويل للظالمين من عذاب شديد!.
-المماطلة في صرف الرواتب وتأخير المستحقات: إن كثيرا من العمال والأجراء يتغرب أحدهم عن أهله، ويفارق زوجته، ويهجر أبناءه، ويغادر أباه وأمه، وهم بأمس الحاجة إليه، ثم يعيش غريبا عنهم، بعيدا منهم، ثم يهلك جسمه، ويتلف أعصابه، وينثر عرقه، بل وأحيانا دماءه، كل ذلك من أجل أن يفرح نهاية الشهر بثمن بخس، دراهم معدودة يوزعها على والدين كبيرين، وامرأة بائسة، وصبية يتضاغون، وقد لا ينال منها إلا شيئا يسيرا.
فتعظم المصيبة، وتكبر الكارثة، إذا مر الشهر والشهران، بل قد تمر على بعضهم شهور عدة ولا يأخذون مستحقاتهم! وهذا عين الظلم والقهر، وعين المخالفة لروح الشرع وتعاليم النبوة، كيف ومحمد -صلى الله عليه وسلم- ينادي فينا: "مطلُ الغنيِّ ظلمٌ" (أخرجه البخاري).
- الاعتداء باللسان واليد: فإن كثيرا من الناس لا يتردد في إطلاق السباب والشتائم، بل واللعن على مَن هم تحت يده، بل والضرب أحيانا، وهذا من أقبح الذنوب.
إن العبد المملوك -فضلا عن العامل- لا يجوز ضربه، أو تعذيبه، أو إطلاق اللسان بالسباب له، يقول -صلى الله عليه وسلم: " إخوانكم خوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمَن كان أخوه تحت يده فلْيُطْعِمْهُ مما يَطعم، ولْيُلْبِسه مما يَلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتُموهم فأعينوهم". ( أخرجه البخاري ومسلم).
وإن من أسوأ مظاهر الاعتداء ما يقع فيه بعض النساء مع الخادمات من الشتائم والضرب والتنقص، ألا فليتقين الله! فوالله! إنها سمات بغيضة إلى الديَّان، كريهة إلى الرحمن، وإن أكثر عقوباتها تكون عاجلة قبل الآجلة، وسيدفعن ضريبتها من صحتهن، وأبنائهن، وسعادتهن ومعاملة أزواجهن لهن، ثم يُقْتَصُّ منهن يوم القيامة، ذاك اليوم الذي سيُقتَصُّ فيه حتى للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
ولْيَعْلَم الجميع أن المفلس هو من يأتي يوم القيامة بحسَناتٍ أمثالَ الجبال، لكنَّه يأتي وقد ضرب هذا، وظلم هذا، ولطم هذا، وسفك دم هذا، وأكل عرض هذا، فيؤخذ من حسناته فتوضع لهم، فإذا فَنِيَتْ أُخِذَ من سيئاتهم فوضعت عليه، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار.
- تأخير إجازاتهم: وهذه أيضا من مظاهر الظلم التي لا تجوز بحال، يجب أن يأخذ العامل إجازته في وقتها فهي حق من حقوقه، وتأخيرها ظلم كبير، وسبب خطير في تفشي المنكرات بين المسلمين.
إذا كنت تنام في أحضان امرأتك، منعَّماً بين أهلك وذويك، فتذكَّرْ أن هذا العامل ينام وحيدا بائسا مهموما كأنما ينام على الجمر، يخفق قبله، وتدمع عينه، وليس له من أهله وأبنائه إلا رسائلهم التي امتزج حبرها بدموعهم ودمعه، أو صورا تُهيِّج الغرام، وتؤجج الشوق، اليوم عنده كالسنة، والساعة كالشهر، ثم تذكر حال من ينتظرون رؤيته، ويتحرقون للقائه.
فأين الإنسانية؟ أين الرحمة؟ أين الشفقة؟ أين الإيمان وتعاليم الإسلام؟ أين أنتم من قول النبي -صلى الله عليه وسلم : "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" ( أخرجه الترمذي وصحَّحه).
إن مظاهر ظلم العمال كثيرة، وكثيرة جدا، وإن كثيرا من الدول قد جعلت لذلك هيئات ومؤسسات ومكاتب، إضافة إلى المحاكم، وأمرت بالعدل وإنصاف العمال وإعطائهم حقوقهم، وجعلت عقوبات رادعة لكل متلاعب ومتهاون.
وإن القائمين علي هذه المؤسسات والهيئات يجب أن يؤدوا الأمانة، وينصفوا المظلوم، ويعدلوا في الأحكام، ولا تأخذهم في الله لومة لائم؛ ولْيَبْشِرْ كُلُّ عادلٍ بقوله -صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" (أخرجه مسلم).
يجب أن يقولوا ما قاله الصديق -رضي الله عنه-: القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى آخذ له الحق.
أيها المسلمون: اللهَ اللهَ في نصرة المظلوم، ومعونة الضعيف، ومؤازرة صاحب الحق، والمبادرة إلى التوبة الصادقة! يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كانت عنده مظلمة لأخيه فلْيتحلَّلْه منها، فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم" ( أخرجه البخاري). ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه, ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره" (أخرجه البخاري).
ودخل -صلى الله عليه وسلم- لحائط لأحد الأنصار، فأقبل إليه بعير حتى وقف أمامه، فإذا بعينه تذرفان الدموع، فنادى -صلى الله عليه وسلم-: "أين صاحب البعير؟" فقال رجل: أنا يا رسول الله، قال: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكَكَ اللهُ إياها؟ فإنه شكا إلى أنك تجيعه وتدئبه" (أخرجه أبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي). فكيف بمن يفعل ذلك مع أخيه الإنسان، بل مع أخيه في الإسلام؟!.
أيها المؤمنون: إن التخلص من المظالم، والوفاء بالحقوق، والصدق في التعامل، والعطف على الناس، مؤهلات لنا ليديم الله أمننا، ويحفظ مجتمعاتنا، ولا يسلط علينا أعداءنا، وإن مخالفة ذلك مؤذن بالعقوبة والنقمة والسخط.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف يسير