لم يكن حب النبي صلى الله عليه وسلم قاصراً على أصحابه، بل كان حبه ممتدا لجميع أمته، ولم يُؤْثَر عن نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذلك الحب الشديد لأمته كما أُثِر عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة:28). قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم". وقال السعدي: "أي شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم، ولهذا كان حقّه مُقَدَّماً على سائر حقوق الخَلق، وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتعزيره وتوقيره".
وصور ومظاهر حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته كثيرة، منها: شفقته عليها، ورحمته بها، وشفاعته لها، وتخفيفه وتسهيله عليها في أحكام الشريعة، وتركه أشياء مخافة أن تُفْرَض عليها، ونحره الأضاحي بدلاً عن فقرائها، ومنها: تمنِّيه رؤيته صلى الله عليه وسلم من جاء بعده من أمته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة, فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ودِدْتُ أنِّي قد رأيْتُ إخواننا، فقالوا: يا رسول الله, ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم (متقدمهم) على الحوض) رواه مسلم. قال النووي: "والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (وددت أنا قد رأينا إخواننا) أي: رأيناهم في الحياة الدنيا، قال القاضي عياض: وقيل المراد تمني لقائهم بعد الموت، قال الإمامالباجي: قوله صلى الله عليه وسلم: (بل أنتم أصحابي) ليس نفيا لأخوتهم، ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة، فهؤلاء إخوة صحابة، والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات:10)".
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في كل صلاة:
من عظيم وجميل صور حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: دعاؤه لها في صلاته، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (لما رأيتُ من النبي صلى الله عليه وسلم طِيب نفس قلت: يا رسول الله، ادع الله لي، فقال: اللهم اغفر لعائشة ما تقدَّم من ذنبها وما تأخر، وما أسرَّتْ وما أعلنتْ، فضحكت عائشة رضي الله عنها حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيسرُّك دعائي؟ فقالت: وما لي لا يسرُّني دعاؤك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والله إنها لدعوتي لأمَّتي في كل صلاة) رواه ابن حبان وحسنه الألباني.
وفي هذا الحديث الكثير من الفوائد، منها: فضل عائشة رضي الله عنها، فقد دعا لها النبي صلى الله عليه وسلم بمغفرة ما تقدم من ذنبها وما تأخر. ومنها: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأمة، وذلك لدعائه لها في كل صلاة كان يصليها. ومنها كذلك: مشروعية أن يتعوّدَ المسلمُ الدعاءَ لجميع المسلمين بالمغفرة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌلِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21)، قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله".
وعن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: (رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأكلتُ معه خبزا ولحما، ـ أو قال: ثريدا ـ قال: فقلت له (قال عاصم لعبد الله بن سرجس): أسْتَغْفَرَ لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولك، ثم تلا هذه الآية {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}(محمد: 19)) رواه مسلم. قال الماوردي: "{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني: استغفر الله ليعصمك من الذنوب. {وَلِلْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي استغفر لهم ذنوبهم".
وقد بوَّب النووي في صحيح مسلم باب: "دعاء النبي لأمته وبكائه شفقة عليها"، وذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيمَ عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}( إبراهيم:36)، وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}( المائدة:118)، فرفعَ يديه وقال: اللهمَّ! أُمَّتي أُمَّتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد، - وربُّكَ أعلم -، فسَلهُ ما يُبكيك؟ فأتاهُ جبريل عليهِ الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهبْ إلى محمدٍ فقلْ: إنَّا سنُرضيكَ في أُمَّتكَ ولا نَسُوءُك) رواه مسلم. قال النووي: "هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد، منها: بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته واعتنائه بمصالحهم، واهتمامه بأمرهم، ومنها: استحباب رفع اليدين في الدعاء، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة، زادها الله تعالى شرفا بما وعدها الله تعالى بقوله: سنرضيك في أمتك ولا نسوءك، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها، ومنها: بيان عظم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، وعظيم لطفه سبحانه به صلى الله عليه وسلم".
ومع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في صلاته بالمغفرة، فقد خبّأ أعظم دعواته ـ وهي الدعوة المستجابة لكل نبي ـ، وادَّخَرَها للشفاعة العظمى لأمته يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه سلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجَّل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا) رواه البخاري.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم