علاقة الإنسان بالكون المحيط به قائمة على أساس التسخير والتمكين، كما قال ابن عباس: والتسخير مقتضاه التمكين، وشرط هذا التمكين تحقيق مبدأ الاستخلاف، وعمارة الأرض وفق مراد الله تعالى، لذلك كان لابد من توجيهات سامية لتوجيه سلوك الإنسان في التعامل مع هذا الكوكب الذي هو مقر الخلافة البشرية، من خلال الحث على استثمار الطاقات الكامنة فيه، وترشيد استعمالها، والتعامل مع مكوناتها بالأسلوب الأرشد الذي يحقق التوازن بين طموحات الإنسان البشرية، وبين المقصد الإلهي من هذا التسخير، فلا غرابة بعد ذلك أن نجد السنة النبوية تحتفي بموارد البيئة، وتؤدب الإنسان بنظام بيئي رشيد، وتسبق النظم البشرية إلى الحفاظ على البيئة بأبهى صورة، وأسمى شريعة.
وعلى سبيل المثال: اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بالنبات بكل مجالات الرعاية والحماية، ونهى عن كل ما يؤذيه ويضره، بل كان من اهتمامه صلى الله عليه وسلم وعنايته به أنه كان يدعو للنبات بالبركة، ويتابع نموه وظهور ثمرته.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه»، قال: ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر.
وكان يعين على غرس الأشجار بيده الشريفة، كما في مسند الإمام أحمد عن سلمان، قال: كاتبت أهلي على أن أغرس لهم خمس مائة فسيلة، فإذا علقت فأنا حر، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له قال: «اغرس واشترط لهم، فإذا أردت أن تغرس فآذني» قال: فآذنته، قال: فجاء، فجعل يغرس بيده إلا واحدة غرستها بيدي، فعلقن إلا الواحدة.
وفي هذا الحديث تشجيع على الغرس وتكثيره، ولا غرابة فإن غرس الأشجار والنبات عامل من عوامل التوازن البيئي الذي يحقق مصلحة الإنسان على الأرض، ولطالما تحدث العلم عن ذلك بحقائق ثابتة لا تقبل العكس قطعاً، لا بل نجد أنه حين غدا شائعاً العمل بعكس هذه الأسس ظهرت المشكلات البيئية؛ بدءاً من ثقب الأوزون، ومروراً بالتغيرات المناخية، وانتهاءً بذوبان الكتل الجليدية وارتفاع درجات الحرارة.
وقد جاء الحث على زراعة النبات واستغلال الأرض بنصوص نبوية صريحة، ولذلك بوَّب البخاري في صحيحه: باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، وقوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه حطاما}، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة (وفي رواية: دابة) إلا كان له به صدقة".
وفي المعجم الكبير للطبراني عن أبي أيوب الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يغرس غرسا، كتب الله له من الأجر بقدر ما يخرج من ثمر ذلك الغراس».
وكان من فقه الصحابة أنهم يفعلون ذلك تعبدا، ولا يرون انفصاما بين ذلك وبين العمل للآخرة، كما في مسند الإمام أحمد عن أبي الدرداء، أن رجلا، مر به وهو يغرس غرسا بدمشق فقال له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا تعجل علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من غرس غرسا لم يأكل منه آدمي، ولا خلق من خلق الله عز وجل إلا كان له صدقة ".
فهذه أحاديث ترشد إلى أن الزرع والغرس من أمور القربات التي يؤجر عليها الإنسان عندما ينتفع أي مخلوق بها، ولا شك أن الزرع هو عصب الحياة الأرضية، وعليه قوامها للإنسان وغيره، وفضل الزراعة مستمر ما دام الزرع والغرس وما تولد منه باقياً إلى يوم القيامة.
بل جاء النهي عن إتلاف الأشجار وعقر النخل حتى في أحلك الظروف وأشدها قسوة، وهي ظروف الحرب والمواجهة مع العدو، وبلغ اهتمام الإسلام بالنبات متمثلة بالشجرة حداً لا يعرف له مثيل في شريعة سابقة، ولا في قانون وضعي، وحسبنا أن نعلم أن الخلفاء وهم أعلى سلطة في الدولة الإسلامية، كانوا يوصون أمراء الأجناد والجيوش عندما يبعثونهم للقتال بالمحافظة على الشجرة وخاصة الشجرة المثمرة ، مثلما يأمرونهم بالمحافظة على أرواح الأبرياء ممن لا علم لهم بالحرب ولم يشاركوا فيها،
فقد روى يحيى بن سعيد، قال: حدثت أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث جيوشاً إلى الشام، فخرج يتبع يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه، فقال:" إني أوصيك بعشر: لا تقتلن صبياً، ولا امرأة، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة، ولا بعيراً ، إلا لمأكله، ولا تغرقن نخلاً، ولا تخرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن" رواه مالك في الموطأ في كتاب: الجهاد.
وبهذا يتضح لنا أن الزراعة وإحياء الأرض بها من الموارد الأساسية التي تحمي البيئة الطبيعية التي خلقها الله تعالى لاستمرار الحياة وإدامة معطياتها، وأن الإسلام أولاها عناية متميزة وجعل الاهتمام بها والقيام بمهمة الاستخلاف فيها عبادة يؤجر عليها المسلم.
والفقه الإسلامي بنظرته الواسعة يؤسس لبيئة متوازنة، إذ ينظر للزراعة نظرا ذا بال، فقد ذكر أهل العلم أن حكم الزراعة فرض كفاية، كسائر الحرف التي لا يستقيم نظام الحياة بدونها، فيأثم المسلمون بتركها جميعاً، ويسقط عنهم الفرض إذا قام بعضهم بما يسد حاجة المسلمين، ويجب على الإمام أن يجبر الناس عليها، وما في معناها من غرس الأشجار.
هذه الرعاية الوافرة لعنصر واحد من عناصر البيئة، وهو الزرع والنبات، فكيف لو تطرقنا إلى بقية العناصر البيئية، كالمياه، والحيوانات، والهواء، وسائر المخلوقات، سنجد أن السنة النبوية على وجه الخصوص سبقت إلى وضع أسس النظام البيئي، ولفتت انتباه المسلم إلى أسس العلاقة التي تربط بينه وبين ما حوله من المكونات البيئية، والعناصر الحيوية، والمرافق العامة، وهذه بعض التوجيهات النبوية في الموضوع على جهة السرد فقط:
الأول: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( اتقوا اللعانين ، قالوا : وما اللعانان يا رسول الله؟، قال : الذي يتخلى (يتغوط) في طريق الناس أو في ظلهم ) رواه مسلم.
الثاني: حديث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اتقوا الملاعن الثلاثة : البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل ) رواه أبو داود .
الثالث: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ) رواه البخاري.
الرابع: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : (جاء أعرابي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسأله عن الوضوء ، فأراه ثلاثا ، ثلاثا ، قال : هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم ) رواه الإمام أحمد في المسند.
الخامس: حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( عُرِضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها ، فوجدت من محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت من مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تُدْفَن ) رواه البخاري.
السادس: حديث سعد ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( طهروا أفنيتكم فإن اليهود لا تطهر أفنيتها ) رواه الطبراني في المعجم.
السابع: حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" . رواه البخاري في صحيحه.
الثامن: حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينما رجل يمشي على طريق وجد غصن شوك، فقال: لأرفعن هذا لعل الله عز وجل يغفر لي به، فرفعه، فغفر الله له به، وأدخله الجنة " رواه الإمام أحمد في المسند.
التاسع: حديث جابر أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال:" غطوا الإناء و أوكوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس فيه غطاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء". رواه مسلم .
العاشر: حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق»، قال عروة: «قضى به عمر رضي الله عنه في خلافته» رواه البخاري.
الحادي عشر: حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده". متفق عليه.
الثاني عشر: حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها , إلا سأله الله - عز وجل - عنها " , فقيل: يا رسول الله , وما حقها؟ , قال: " حقها أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي بها ". رواه الإمام أحمد في المسند.
فهذه نبذة يسيرة للتذكير بهذا المقصد الذي احتفلت به الشريعة على وجه العموم، والسنة النبوية على وجه الخصوص، ولو استوعبنا كل ما له علاقة بالحفاظ على البيئة لخرجنا عن حدود هذه الخلاصات السريعة، والذي ينبغي على المسلم هو أن يعلم أن هذه الشريعة وافية بكل المقاصد الحيوية، فقد قدمت منظومات متكاملة في جميع المجالات، ويبقى على المسلمين تقديم الرؤى الواضحة التي تبرز مكتنزات الشريعة، وفق نماذج عملية قابلة لاستيعابها في الحياة العامة، فهي أرشد من استنساخ التجارب البشرية المفتقرة للعلم والحكمة في أحايين كثيرة.