لقد كان قدر العلماء أن يكونوا حملة هذا الدين، والمتكلمين باسم الشريعة، والموقعين بالفتوى عن رب العالمين، ومما ابتلى الله به العلماء والمجتهدون دفع التعارض بين نصوص الوحي، وإبرازها وفق مقصد الشارع متكاملة في البناء، متناسقة في المعنى، فظهرت بذلك مراتبهم، واستفرغوا في سبيله جهودهم وإمكاناتهم، فبه يكتب الله لهم الأجور الوافرة، ويتحصلون على العلوم والمعارف النافعة، وتتفيؤ عقولهم في ظلال النصوص وروضات الوحي الوارفة، يحلون الإشكالات، ويوفقون بين المتعارضات، ينفون بذلك عن الشرع تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، ولولا ذلك لاختلط على الناس المحكمات بالمتشابهات، وذلك قدرهم الشريف الذي وضعهم أمام هذه المهمة السامية.
ومن ذلك الجمع بين نصوص السنة المتعارضة في فهم الناظر فيها لأول وهلة، ولا سيما النصوص التي ينبني عليها أثر وعمل، ناهيك عما إذا كان هذا الأثر على مستوى الأمة، ويشكل أساسا للعلاقات الدولية ومع غير المسلمين على وجه الخصوص، كالحديث الذي رواه البخاري عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»، والحديث الآخر الذي رواه رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري»، ويستدل بها على أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين أساسها الحرب والعداوة، وأن خيار السيف مقدم في التعامل معهم على الدعوة والمهادنة، فهل تجتمع النصوص الشرعية على هذا المعنى، أم أن هناك نصوصا أخرى لا بد من الجمع بينها وبين هذا الحديث وأمثاله؟
والجواب عن ذلك يبدأ بقاعدة عظيمة لا بد من مراعاتها في فهم النصوص الشرعية عموما، وهي "أن النصوص الشرعية جسد واحد يخدم بعضها بعضا، ويوجه بعضها دلالة بعض، ويفسر بعضها ببعض"، بحيث يتكون من مجموعها منطق تشرعي متسق، وفهم جمعي متوازن، وبغير مراعاة هذه القاعدة الجليلة، ينشأ الفهم المجتزأ، والتفكير الأحادي المتمركز وراء نص واحد، أو نصوص من جانب واحد أيضا، فينتج عن ذلك اختلالات لا حصر لها، وتشوه تشريعي لا حل معه إلا بمراعاة هذا الميزان المتحتم لفهم الشريعة، فنجد على سبيل المثال أن نصوص الوعد والوعيد ثنائية لا بد من رد بعضها إلى بعض، ونصوص أسماء الإيمان والكفر كذلك، ونصوص الإثبات والتنزيه في باب الاعتقاد وحدة متكاملة، ونسيج لا يمكن فصل بعضه عن بعض، والإخلال بذلك مورد الخلاف والنزاع، وما الخلاف التاريخي الفلسفي في تاريخ الأمة حول الاعتقاد إلا خير شاهد على ما نقول.
وحين نأتي إلى نصوص السيف كما يسميها بعض المفسرين، وهي النصوص الآمرة بالقتال والمواجهة، كالحديثين السابقين نجد أن هذه النصوص قد تعرضت لجدل علمي واسع، حتى ذهب بعض المفسرين إلى القول بأنها هي الأصل في العلاقة بين المسلمين وبين الكفار، وأنها ناسخة لآيات الصبر على أذى الكفار، وفي الطرف الآخر من يرى أن النصوص الآمرة بالصبر والمهادنة، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة هي الأصل في تشكيل العلاقة بين المسلمين وبين غيرهم من الأمم، والحق في ذلك والعلم عند الله أن النصوص الآمرة بالقتال تحمل على ما يصلح لها من الأحوال والظروف السياسية، وذلك حين يُفرض على المسلمين عدوان خارجي، فتتنزل تلك النصوص على تلك الحال لرد العدوان، ودفع العدو، أو لصد من يعترض طريق الإسلام بعد بذل الحجة والبيان، وكل ذلك لرد الاعتداء، فمقاتلة من لا يقاتلنا سلوك نهى عنه القرآن، وإنما شرع الرد بالمثل، وإلا كان عدوانا، كما قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 193-194]، فإذا تغيرت الظروف، وزال مقتضي القتال، فالأصل أن يكون السلم هو أساس التعامل بين المسلمين وبين غيرهم، فيكون القتال استثناء من الحالة الطبيعية، وعلى هذا الحال تتنزل الكفة الأخرى من النصوص الآمرة بالجنوح للسلم، والمهادنة وحسن التعامل، وبه تأتلف النصوص وتتنزل في مواضعها اللائقة بها.
كما قال المتنبي:
وَوَضْعُ النّدى في موْضعِ السّيفِ بالعُلى مضرٌّ كوضْع السيفِ في موضع النّدى
يقول الزركشي في البرهان بعد ذكر أقوال المفسرين في نسخ آيات السيف لآيات الصبر: "وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين فى الآيات الآمرة بالتخفيف انها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المُنْسأ، بمعنى ان كل امر ورد يجب امتثاله فى وقت ما، لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة الى حكم آخر، وليس بنسخ إنما النسخ الازالة حتى لا يجوز امتثاله ابدا".
ويقول مصطفى زيد في كتاب النسخ في القرآن: "وانما شرع القتال فى الإسلام لتأمين الدعاة اليه، ولضمان الحرية التي تكفل لهم إبلاغ دعوته، ودرء الشبه عن عقيدته، بالمنطق السليم والحجة المقنعة. ومن اجل هذا خص أئمة الكفر بالأمر بقتالهم، لأنهم يحولون بالقوة بين الدعاة والشعوب التي يجب ان تدعى، فإذا ما هيئت للدعاة وسائل الدعوة فى أمن وحرية فلا حرب ولا قتال".
وهذا المسلك الذي يجب اتباعه في فهم النصوص هو مسلك العلماء قديما وحديثا؛ إذ به إعمال للنصوص كلها، ومما قعدوه في هذا الباب: "أنه متى أمكن الجمع بين الأدلة وجب المصير إليه، فإعمال النصوص مقدم على إهمال أحدها"، وأما ما يقوله بعض لا يحسب على فقهاء الشريعة من الطعن في النصوص الآمرة بالقتال، ومحاولة إثارة الشبه حولها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها بالباطل، ورد النصوص الصريحة الصحيحة في هذا الباب مطلقا، فهذا كلام يتردد في مواقع وحسابات، وصحف ومجلات، غير أنه لا يمتلك أساسيات الأمانة العلمية، والبحث المتوازن، ولا غرابة فهذا أوان ارتفاع العلم، وحلول الجهل، وضياع الورع عن القول على الله بغير علم، لا سيما وأن الدورة الحضارية اليوم على حساب المسلمين، فقد جرت فيهم سنة الله في الأمم من الضعف والتمكين لعدوهم، ومن إفرازات هذا الوضع المتردي أن سعى هؤلاء إلى تقديم نسخة مزورة عن الإسلام عنوانها التعايش والتسامح وباطنها تهيئة الأمة لترسيم الذل، ومواصلة طريقها نحو مشروع الاستسلام، كما قدم الغلاةُ نسخةً مزورة على النقيض من سابقتها، تظهر الإسلام بمظهر الوحشية والانتقام، عنوانها العزة والجهاد، وباطنها المغامرة بمصير أمة دون وعي ولا روية، وتبقى النسخة الأصلية الأصيلة لهذا الدين باقية ببقاء نصوصه الخالدة، وبفهم متوازن يضع الأمور في مواضعها، وبنظر راشد لا يخضع للأهواء ولا للضغوط السياسية، ولا للمزاج الدولي الجائر، بل عنوانه كما قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى: 15]، والإشارة عائدة إلى قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى: 14].