لم يكن مصطلح مدرسة مستعملا لدى علمائنا المتقدمين، وإنما كانوا يستعملون مصطلح أو لفظ مذهب أو طائفة ونحو ذلك، والمدرسة مصطلح حادث يقصد به: "الاتجاه الذي يختص بمنهجية محددة ومتميزة عن غيره في دراسة علم ما"، وبناء على هذا التعريف للمدرسة يمكن أن نعرف المدرسة العقدية بانها: "الاتجاه الذي يختص بمنهجية محددة ومتميزة عن غيره في دراسة علم العقيدة ومسائله وقضاياه، ويتقارب معها في الدلالة المنهج العقدي"، وفي هذا الصدد لا بد من بيان الفرق بين المدرسة العقدية والفرقة العقدية عمومًا؛ فالفرقة العقدية تطلق على الطائفة التي يجمعها قول مشترك ولا يلزم أن يكون لها منهجية محددة، أما المدرسة العقدية فهي التي تعتمد على قضايا كلية استدلالية تبني عليها آراءها العقدية، وتنطلق منها في دراسة المسائل العقدية.
وقد تعددت المدارس العقدية التي تنتسب إلى الإسلام، وكان لتعددها أسباب عدة، ويمكن تقسيم تلك المدارس بحسب مناهج الاستدلال فيها ومصادره إلى أربعة مدارس هي: المدرسة السنية (أهل السنة والجماعة)، والمدرسة الكلامية، والمدرسة الفلسفية، والمدرسة الكشفية، ونقتصر في هذا المقال على بيان المدرسة السنية، ونرجئ بيان غيرها من المدارس إلى مقالات أخرى.
المدرسة السنية نسبة إلى السنة، والمراد بالسنة هنا موافقة العقائد التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، ومن أقدم تعريفات مدرسة أهل السنة والجماعة تعريف أبي نصر السجزي (ت: 444 هـ) حيث قال: "هم الثابتون على اعتقاد ما نقله إليهم السلف الصالح رحمهم الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه رضي الله عنهم فيما لم يثبت فيه نص في الكتاب ولا عن الرسول"، ويقول السفاريني (ت: 1188 هـ) في بيان مفهوم المدرسة السنية: "المراد بمذهب السلف: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، وأعيان التابعين لهم بإحسان، وأتباعهم وأئمة الدين ممن شهد له بالأمانة، وعرف بعظم شانه في الدين، وتلقى الناس كلامه خلفًا عن سلف".
ومن خلال ما ذكر من تعاريف للمدرسة السنية العقدية وغيرها يمكن أن نستخلص تعريفًا جامعًا للمدرسة السنية في علم العقيدة فنقول: "هي اتجاه علمي ذو أصول محددة، يعتمد في دراسة علم العقيدة على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حيث الأساس"، فهذه المدرسة تعتمد الوحي الذي كان عليه رسول الله وأصحابه في بناء الدين كله ومنه العقيدة، فلا يبنون عقائدهم حتى ينظروا في نصوص الكتاب والسنة، وما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لديهم أصول عقلية أو ذوقية سابقة على الوحي، وحاكمة عليه، بل منطلقهم في تقرير العقيدة هو الوحي وهو الميزان الحاكم.
نشأة المدرسة السنية: لم تتشكل المدرسة السنية بصورة متكاملة من أول ظهورها، وإنما تطور تشكلها مع مرور الوقت، ومن أقدم الرسائل التي وصلتنا وفيها القصد للتأليف في العقيدة: رسالة الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت: 101 هـ) تكلم فيها عن القدر ورد على المخالفين فيه، وبعده رسالة أبو محمد الهلالي (ت: 105 هـ) تحدث فيها عن أركان الإيمان وما يدخل فيه من الشعب، وبعدهم توالى التأليف في مسائل العقيدة حتى اكتملت المدرسة السنية، وكان الملاحظ على التأليف فيها ملاحظتين هما: أن التأليف بدأ فيها بشكل جزئي، وأن أكثر التأليف كان في مسائل القدر والمنكرين له.
ألقاب المدرسة السنية: عرفت المدرسة السنية ألقابا كثيرة تدل عليها، ومن أبرز تلك الألقاب ما يلي:
- أهل السنة، أو أهل السنة والجماعة، أو أهل الجماعة: ظهر هذا اللقب أواخر عهد الصحابة، وأول من استعمله محمد بن سيرين (ت: 110 هـ) حيث قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ منهم حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم"، وقال سفيان الثوري (161 هـ): "استوصوا بأهل السنة والجماعة خيرًا فإنهم غرباء"، ووجه تسميتهم بأهل السنة والجماعة انهم أخلصوا الاتباع للسنة واجتمعوا عليها.
- أهل الحديث: وهذا لقب قديم أيضًا، استعمله الأئمة المتقدمون، ومن أبرز من استعمله الإمام الشافعي (ت: 204 هـ) حيث قال: "القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها؛ أهل الحديث الذين رأيتهم"، واستعمل هذا المصطلح: ابن المبارك، والإمام أحمد، وعلي بن المديني، والبخاري، وغيرهم كثير. ووجه تسميتهم بأهل الحديث أن الأئمة المؤسسين لعلم العقيدة على مذهب أهل السنة والجماعة كانوا هم أئمة الحديث وحفظته.
- أهل الأثر: وهو من الألقاب قليلة الاستعمال عندهم، وممن ذكره أبو حاتم الرازي (ت: 277 هـ) حيث قال: "مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، وتمسك بمذهب أهل الأثر".
- الفرقة الناجية: وهذا من المصطلحات القليلة الاستعمال أيضًا، استخدمه الإمام أحمد عند تعريفه الفرقة الناجية بأنهم أهل الحديث فقال: "إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم".
- السلفية: وممن أطلق هذا اللقب على أهل السنة الإمام الآمدي (ت: 631 هـ) حيث قال: "أما الفرقة الناجية وهي الثالثة والسبعون فهي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذه الفرقة هي: الأشعرية والسلفية من المحدثين وأهل السنة والجماعة".
سمات المدرسة السنية: للمدرسة السنية سمات كثيرة نذكر أبرز تلك السمات فيما يأتي:
- أنها المدرسة الوحيدة التي لا تنسب إلى شخص، وإنما تنسب إلى السنة، وكان أول من نبه لذلك الإمام مالك (ت: 179 هـ) حيث قال: "أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي".
- شدة الاعتصام بالكتاب والسنة، والإكثار من الدعوة إليهما بصورة لا تكاد توجد في غيرها من المدارس، وفي ذلك يقول الإمام الزهري (ت: 124 هـ): " كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة".
- الحرص على التمسك بما كان عليه الصحابة وتلامذتهم، وكثرة التواصي بذلك، يقول الأوزاعي (ت: 157 هـ): "اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم"، ويقول الإمام أحمد: "أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله لعيه وسلم، والاقتداء بهم".
- الجمع بين العلم والسلوك، فالمدرسة السنية لا تهتم بالجوانب المعرفية فحسب، ولا تقتصر على مجرد العقائد، وإنما تجمع مع ذلك الاهتمام باستقامة السلوك، والدعوة إلى الابتعاد عن المحرمات والمعاصي، وقد كان علماء هذه المدرسة من أكثر الناس علمًا، وأشدهم عبادة، وقد ألف الإمام أحمد في السلوك والورع كتاب: الزهد، ومثله ألف ابن المبارك وغيرهم، وقد عقد ابن تيمية فصلًا في كتابه العقيدة الواسطية ذكر فيه جملة كبيرة من أخلاق أهل السنة والجماعة وسلوكهم.
كانت هذه أبرز المعلومات المعرفة بالمدرسة السنية من مدارس العقيدة.