يقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}ِ(المائدة:2).
في هذه الآية الكريمة حضٌّ للمسلمين جميعا على التعاون على البر والتقوى، ونهي عن التعاون على الإثم والعدوان.
ومع انحسار الخير في زماننا وانتشار الشر، أصبح هذا الأمر ملحًّا لنشر الخير وتكثيره وتحجيم الشر وتقليله، ولإقامة أمر الدين وتقوية المصلحين، وكسر الشرّ ومحاصرة المفسدين.
الفرق بين البر والتقوى
البر والتقوى من الألفاظ التي إذا افترقت اتفقت، وإذا اجتمعت اختلفت، كالإسلام والإيمان وأشباهها.. قال القرطبي رحمه الله: "البر والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكل برّ تقوى، وكل تقوى بر".
وأما عند الافتراق، فقد تفاوتت ألفاظ العلماء في التفريق بينهما:
فقال القرطبي رحمه الله في تفسيره: "البر يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوى رعاية الواجب". (الجامع لأحكام القرآن:6/47).
وقال الشيخ السعدي: "البرّ هو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله، وحقوق الآدميين، والتقوى في هذه الآية: اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله من الأعمال الظاهرة والباطنة".(تيسير الكريم الرحمن 2/238)
وقال ابن القيم: "... الفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها، فإن البرّ مطلوب لذاته؛ إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه، وأما التقوى فهي الطريق الموصل الى البر والوسيلة اليه"(زاد المهاجر).
معنى التعاون عليهما:
الإعانة تأتي بمعنى المعاونة والمظاهرة والنصرة، وتعاون القوم إذا أعان بعضهم بعضا.
وكلام الأئمة يرجع إلى معنى عام وهو أن يعين كل واحد صاحبه على ذلك علما وعملا. وفي حلية الأولياء: "سئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} فقال: "هو أن تعمل به، وتدعو إليه، وتعين فيه، وتدل عليه" (7/284).
يقول القرطبي في تفسيره: "أي ليُعِن بعضكم بعضا، وتحاثوا على أمر الله تعالى واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه، وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله)" (الجامع لأحكام القرآن 3/6/33).
أهمية التعاون على البر والتقوى
التعاون على البر والتقوى أمر من الله تعالى، وفي تعاون المسلمين على ذلك امتثال لأمره سبحانه وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي التعاون على البر تيسير القيام به، وزيادة إتقان له، وزيادة الأجر كما في زيادة عدد المصلين في الجماعات.
وفيه تحقيق لأهداف ومشاريع ربما تُعجِز الإنسان بمفرده، وفيه توزيع للمسؤولية بين عدة أفراد.
كما أن فيه زيادةَ الألفة والمحبة بين المسلمين، وشدًّا لعضد بعضهم من بعض.
ولولا أهمية هذا التعاون بين المؤمنين لما طلب الأنبياء من الله سبحانه أن يمدهم بمن يعينهم على ذلك.. كما قال موسى: {وَأَخِى هَٰرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِىٓ}(القصص:34)، فاستجاب الله له وقَالَ: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}(القصص:35).
ولما قال عيسى بن مريم للحواريين: {من أنصاري إلى الله}(الصف:14). قال ابن كثير في البداية والنهاية(2/85): أي يساعدني في الدعوة إلى الله.
ولَمَا طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالقبائل وبـ (... النَّاس فِي مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى يَقُولُ: مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ)(رواه أحمد).
وهذا الإيواء في حد ذاته كان من التعاون على البر والتقوى، وهو ما فاز به الأنصار رضوان الله عليهم، والذين أعانوا النبي صلى الله عليه وسلم أعظم العون وأمدوه بأفضل المدد، وكانوا طائعين له في كل ما أمرهم بهم من الأمور البدنية والمالية وغيرها.
مجالات التعاون على البر والتقوى:
أما مجالات التعاون فبابها واسع جدا لا يكاد يأتي عليه عد ولا حصر، فكما قلنا: إن البر هو كل أمر يحبه الله، فيكون التعاون على فعله وإيجاده والمحافظة عليه من هذا التعاون، والتقوى ترك كل شيء يبغضه الله تعالى، فيكون التعاون على هذا الترك أيضا من التعاون على البر والتقوى.
ولهذا يدخل هذا الأمر في أبواب لا حصر لها:
كالتعاون على تبليغ دعوة الله تعالى إلى الناس، ونشر العلم، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وجميل الآداب وطيب الخصال..
ومنه: التعاون على إقامة العبادات، وإظهار شعائر الدين وتعظيمها في قلوب الخلق، كما قال سبحانه: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِ}(الحج:30)، {ذَلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ}(الحج:32).
ومنه التعاون في بناء المساجد، وإقامة المحاضرات، ونشر العلم، وتعليم الجاهلين، والصبر على جهلهم وأذاهم، وكذا بناء المشافي والمراكز الطبية ودور العلاج ـ خصوصا الخيرية منها ـ لخدمة فقراء المسلمين، ودور رعاية المسنين.
ومنها التعاون في مجال طلب العلم: كما كان عمر يفعل مع جاره الأنصاري أَوْس بْن خَوْلِيّ في تبادل سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغ كل واحد لصاحبه ما سمعه، فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ ـ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ ـ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ .. الحديث).
كيف يكون التعاون؟
والمعاونة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكون بالجاه، والبدن، والنفس، والمال، والقول، والرأي.
يقول القرطبي في تفسيره: "والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة" (الجامع لأحكام القرآن: 6/47).
جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في خطبة خطبها في قوم: (فانظروا رحمكم الله واعقلوا وأحكموا الصلاة واتقوا الله فيها، وتعاونوا عليها، وتناصحوا فيها بالتعليم من بعضكم لبعض، والتذكير من بعضكم لبعض من الغفلة والنسيان؛ فإن الله عز وجل قد أمركم أن تعاونوا على البر والتقوى والصلاة أفضل البر) (طبقات الحنابلة: 1/ 354).
ومن ذلك أيضا كفالة الطلبة والعلماء والدعاة الفقراء، والاحتساب بالإنفاق عليهم ومعاونتهم بالمال، وتفريغهم للدرس والتدريس والدعوة ونشر دين الله تعالى.
وقد جاء في سنن الترمذي أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاثَةً الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَالْمُمِدَّ بِهِ)(قال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
ومنها إعانة المسلمين في قضاء حوائجهم، وإغاثة الملهوفين، ومعاونة الضعفاء والمحتاجين، ومواساة الملهوفين؛ ففي المسند عن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ).
وباب التعاون في القيام بحقوق المسلمين واسع، ويدخل ضمنه مجالاتٌ متعددة، وبالجملة فقد جمعت هذه الآية ـ على اختصارها ـ الأمرَ بالتعاون على كل شيء حسن وكل أمر جميل.
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
خواطـر دعوية