الأمن ضرورة إنسانية، وفريضة معيشية، لا ينتظم بدونه شأن، ولا يتحقق من غيره هدف دنيوي ولا أخروي، ولذلك قرنه الله بأساسيات الحياة في قوله ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ) [البقرة: 110]، بل بدأ به قبلها، إذ الأمن ضد الخوف، فالأمن حجر الأساس لمشروع التعمير الحضاري، والاستخلاف البشري، تختل باضطرابه كل شؤون البشر.
فلا غرابة أن تكون السنة قد اهتمت بقضية الأمن الاجتماعي فهي قضية الإسلام ومقصوده الأكبر، فمن خلال الأمن يحفظ مقصود الشرع من الخلق وهي خمسة كما ذكرها العلماء، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، وقد جاءت السنة بكل تشريعاتها المختلفة لبسط الأمن على هذه المقاصد العظيمة، وفي جميع مناحي الحياة.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين أساسيات الأمن، كما في الأدب المفرد للبخاري عن عبيد الله بن محصن الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده طعام يومه، فكأنما حيزت له الدنيا» قال المناوي في كتابه فتح القدير :" يعني : من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها، بأن يصرفها في طاعة المنعم، لا في معصية، ولا يفتر عن ذكره".
ومن مظاهر اهتمام السنة بالأمن المجتمعي بين الناس: الحث على أن يعم الأمان في التعامل بين الجيران، بحيث يكون الجار أمانا على جيرانه، أما من كان يشكل مصدر خوف وقلق على جيرانه فقد نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه »، والبوائق هي الظلم والغوائل.
ومن مظاهر الأمن المجتمعي في السنة النبوية: أنها تكاد تحصر حقيقة الإسلام والإيمان في تأمين الناس من أذى اللسان واليد تأكيدا على هذا المبدأ العظيم، ففي الصحيحين أيضا عبد الله بن عمرو يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، وعند الترمذي وابن حبان «والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم».
ومن مظاهر الاهتمام بالأمن المجتمعي: الحث المستمر على تفعيل دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو صمام أمان المجتمعات، في المجال الفكري والأخلاقي فانتشار المنكرات، وشيوع الفواحش، وظهور الدعوات المعلنة للإلحاد من أعظم ما يهدد أمن المجتمع، والاحتساب المنضبط بالتعاليم النبوية من أعظم وسائل تخفيف المنكرات، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" متفق عليه، وما نشاهده اليوم من اختلالات أمنية لمجتمعات كانت تنعم بالأمن كان من أسبابه تفريطهم في جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن مظاهر الاهتمام بالأمن الاجتماعي في السنة النبوية: الحث على بث روح المحبة والسلام بين أفراد المجتمع الواحد، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على المحبة وعلى كل ما يعزز روابطها بين أبناء المجتمع فهي أقوى سلاح لتعزيز الأمن في أي مجتمع ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم »، وفي سنن أبي داود عن المقدام بن معدي كرب، وقد كان أدركه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه»، وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر، ولا تحقرن جارة لجارتها ولو شق فرسن شاة».
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم التعامل الآمن مع المجتمع ببذل الخير له من أعظم الأعمال التي تحقق للمسلم الأمن الأبدي في الجنة، كل ذلك تأكيدا على تعزيز مفهوم الأمن المجتمعي ففي سنن الترمذي أيضا عن علي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة غرفا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها»، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام»، ومن ذلك الحديث المرفوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني" أخرجه البخاري.
ومن مظاهر الاهتمام بالأمن المجتمعي في السنة النبوية: النهي عن كل تصرف يمس أمن المجتمع، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب: الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا".
ومن مظاهر الاهتمام بالأمن المجتمعي في السنة النبوية: إرساء قواعد العدل والمساواة بين الناس، حتى تهدأ النفوس، وتنتهي الشحناء، ويسود الرضا والقناعة، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أهلك الذين قبلكم، انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" متفق عليه.
ومن مظاهر الاهتما بالأمن المجتمعي في السنة النبوية: توجيه الراعي والرعية بما يضمن دوام الأمن واستقرار الحال، فوجه ولاة الأمر بتحمل مسؤوليتهم تجاه رعيتهم، من ذلك ما في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته»، وفي صحيح مسلم عن قتادة ، عن أبي المليح: أن عبيد الله بن زياد دخل على معقل بن يسار في مرضه، فقال له معقل: إني محدثك بحديث، لولا أني في الموت لم أحدثك به: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:« ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة »
ووجه الرعية بالسمع والطاعة بالمعروف وعدم الخروج على أئمتهم ولو جاروا، حماية لجانب الأمن المجتمعي ففي صحيح مسلم، في كتاب: الإمارة بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه".
وهكذا تبقى قضية أمن المجتمع قضية محورية في الخطاب النبوي، ويستمر التركيز عليها حتى آخر مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما ورد في سنن ابن ماجة عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع "ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا ألا وإن أحرم الشهور شهركم هذا ألا وإن أحرم البلد بلدكم هذا ألا وإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت، قالوا نعم، قال اللهم أشهد".
بل لو قال قائل إن قضية الأمن بكل مستوياتها هي قضية السنة النبوية بل قضية الإسلام لما كان بعيدا عن الحقيقة، ففي كل حكم أو توجيه أو تشريع أبعاد أمنية ملحوظة لكل ذي نظر ثاقب في الشريعة.