كثيرا ما نسأل: هل العربية لغة صعبة؟ولعل السؤال الصحيح في هذا المقام هو: هل هي صعوبة مجانية؟ صعوبةٌ بلا مقابل؟!
الحق أنها إن كانت صعبةً فإنما هي الصعوبة الناشئة عن الثراء كما يقول د. مفيد أبو مراد.
والواقع أن العربية غنية جدًّا بفضل مؤهلاتٍ للغنى اللامحدود، أشهرها أربعة:
(1) الغنى الاشتقاقي.. حتى إن المادة اللغوية الواحدة (الجذر الثلاثي) يمكن أن يتولد منها عشراتٌ بل مئات من المشتقات، التي لا يستعمل منها إلا جزءٌ قليل، فهي أشبه برصيدٍ مَصرِفي مفتوح، لك أن تبقيه على حاله الأصلي، أو أن تسحب منه ما تشاء، مستخدمًا وسائل متنوعة وأساليب عديدة للتنفيذ أو للإعمال.
(2) الغنى الجغرافي أو الأفقي.. وينجم من تأثر اللسان بالبيئتين الطبيعية والاجتماعية، ونظرًا لاتساع رقعة الناطقين بالعربية، والمتعاملين بها من مسلمين أعاجم ومستعربين غير مسلمين، فمن الطبيعي أن تتنوع أساليب النطق، والتراكيب التعبيرية، والاصطلاحات.. إلخ.
(3) الغنى التاريخي أو العمودي.. الناجم من تعاقب الاستعمالات والحضارات والمؤثرات.
(4) الغنى الاقتباسي.. بحيث يمكن توظيف ألفاظٍ عربية لتأدية معنًى مضاف كالملاءة المصرفية، والبرق، والتحويلات.. أو إدخال ألفاظ أعجمية، تُعرَّب فتجري مجرى المادة اللغوية العربية، كالفلسفة والفلم والفردوس والكلية والهدرجة والأكسدة.. إلخ، ومن الطبيعي أن يتعذر على طالب العربية أن يحيط بجماع هذه الثروة اللسانية المعجزة، ولكن أليس من الطبيعي أيضًا أن يقصر الطالب همه اللساني على ما يعنيه من أمر اللغة، فيكتسب ما تيسر من عناصر المادة الأولية اللغوية وأوَّليات النحو والصرف، وأوَّليات البلاغة والعروض والألسنية؟ وهي عدة كافية لتوفير الحد الأدنى من التراكيب والمفردات الضروري له للتعامل مع محيطه الاجتماعي والمهني، وللتصرف باللسان كأحد أبنائه، بل كسيِّد من سادته، وهل يحتاج غير المتخصصين باللغة إلى أكثر من هذا؟!
أما حركات الإعراب (أي اختلاف الحرف الأخير أو الأحرف الأخيرة في الكلمة حسب موقعها من الإعراب) ونجد مثله في اللاتينية وفي اللغات السامية القديمة وفي كثير من اللغات القديمة، فهو بغير شك صعوبة كبرى، غير أنه صعوبة مجزية، ووجوده في اللغة العربية يمنحها مزايا تعبيريةً وطاقاتٍ بيانيةً وموسيقية هائلة، وهل الموقع من الإعراب سوى موقع من المعنى؟ الإعراب يضمن تماسك المعنى فيتيح للعربية مراغمًا كثيرًا للقيم الشكلية الدالة، ويتيح لها التقديم والتأخير (كأن عظامها من خيزران كما يقول مارون عبود)، ويتيح تبديل الصدارة والخلفية بما يقتضي الحال (اللهَ أعبدُ؛ غير أعبدُ اللهَ، معنويًّا وعروضيًّا)، وتيسير التقفية في الشعر وحشد الدلالة عند القافية بحيث تؤتي أثرًا شعريًّا جماليًّا وتنتزع السامع من نفسه وترمي به في الوجد.
إنه الخاصة البوليفونية (الرواية المتعددة للأصوات) الكامنة في العربية، والتي تجعلها مغردةً بالطبيعة شعريةً بالوراثة، وتسمح لها أن تتأود دون أن تنقصف، وتتمايد دون أن تنخسف، وتتيح لها أن تتراقص بليونة وأرجلها ثابتةٌ على الأرض (بل لعله يتيح لها أن تكون أكثر دقةً علمية وإبانةً فكرية).
وحركات الكتابة صعوبة بلا ريب، ولكنا نعلم أنه بالنسبة للقارئ المتمرس لا لزوم للتحريك في أغلب الكلام، وأما لغير المتمرس فإن تقنيات الطباعة الحديثة قد حلت هذه المشكلة المزمنة من حيث لا نحتسب، العربية لغةٌ تكتب على ثلاثة أسطر، وتقرأ مثلما تكتب (بمراعاة قواعد بسيطة) بدقةٍ تامة وكمالٍ عجيب.
المثنى وتصريفاته وإعرابه صعوبة بلا شك تكاد تنفرد بها العربية، ولكن أليس "اثنان" عددًا ذا وضعٍ خاص؟ ثمة في الوجود علاقاتٌ لا تكون إلا "ثنائية"، وتنبئنا السيكولوجية الحديثة أن الجماعة تبدأ من العدد ثلاثة، أما الاثنان فليسا جماعة بأي حال، وفي العلاج النفسي الجمعي تمر الجماعة بمرحلةٍ غير ناضجة تظهر فيها الثنائيات أو "الأزواج "ولا تصبح الجماعة جماعةً بحق إلا بعد تلاشي هذه الثنائيات، الاثنان إذن تصنيفٌ عددي قائمٌ بذاته، واللغة التي تغطي ذلك دلاليًّا هي، على صعوبتها، لغةٌ أكثر إبانة وأدق تصويرًا.
صفوة القول أن العربية، لغة بديعة خلابة البنيان، وأنت مع العربية بإزاء وحشٍ خرافي جسيم، لو أمكنك أن تروِّضه وتستأنسه لفعلتَ به الأفاعيل، هي ثروةٌ طائلة تركها لنا الأجداد سادة الأرض في تجليهم، ومن السَّفَه أن نتنازل عنها ببساطة.
إنها بحاجة إلى هندسة إصلاحية "جزئية" لا إلى ثورة عارمة هادمة لا تبقي ولا تذر، بحاجةٍ إلى العلاج لا البتر. بحاجة إلى أن نقتدي بالسلف في الخصلة التي جعلتهم سادة الأرض يومًا، في روحهم الاجتهادية ذاتها وليس في أي شيءٍ آخر، فنفكر مثلما فكروا، ونجتهد مثلما اجتهدوا.
__________________
أصل المقال مأخوذ من كتاب:" مغالطات لغوية" لعادل مصطفى
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
أقليات وقضايا