المقصود بأحكام مسائل العقيدة: "الأحكامُ الشرعية والاستدلالية المتعلقة بالمسائل المندرجة ضمن علم العقيدة"، وذلك كحكم المخالف في مسائل العقيدة، وحكم الاستدلال عليها بخبر الآحاد أو القياس، وهل يدخل عليها النسخ، وهل كل مسائل العقيدة من الأصول، أم ثمة أصول وفروع في العقيدة، وكون بعض مسائل العقيدة آكد من بعض، ونحو ذلك من الأحكام التي تعد من الأهمية بمكان في دراسة علم العقيدة، إذ بها يعرف دارس هذا العلم مراتب مسائله، وما يصلح دليلًا لكل مسألة، وما يحكم على المخالف فيها بالتضليل والفسق والكفر، أو دونها من الأحكام.
وسنبين في هذا المقال بعض تلك الأحكام، ونرجئ الحديث عن بقيتها إلى مقال آخر بإذن الله تعالى.
أولًا: مراتب مسائل العقيدة: كان ابن تيمية من أبرز العلماء الذين بينوا أن مسائل العلم أصولٌ وفروعٌ ومن ذلك مسائل العقيدة، بمعنى أنها ليست كلها على منزلة واحدة كما يظن الكثير، وأن تلك المنزلة هي كونها من أصول الدين، بل مسائل العقيدة على درجات منها أصول لا يسوغ الخلاف فيها، ومنها فروع تقبل الخلاف، يقول ابن تيمية: "فمن بنى الكلام في العلم: الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة...، وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها...، بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع"، فابن تيمية يقرر أن مسائل العقيدة فيها أصول وفروع، وليست كلها من أصول الدين التي يفسق أو يكفر المخالف فيها.
وفي هذا المقام ينبغي أن يعلم -كما قاله الدكتور سلطان العميري- أن مسائل العقيدة منها ما هو من أصول الدين، ومنها ما هو من فروعه، وكذا مسائل أصول الدين منها ما هو من العقيدة، ومنها ما ليس منها، فالإيمان بالله تعالى وغيره من أركان الإيمان هي من أصول الدين ومن مسائل العقيدة أيضًا، والصلاة والزكاة والصيام هي من أصول الدين وليست من مسائل العقيدة، ومسألة رؤية الرسول ربَّه ليلة المعراج من مسائل العقيدة ولكنها ليست من أصول الدين، وأحكام الصلاة والزكاة هي من فروع الدين وليست من مسائل العقيدة أيضًا.
ثانيًا: الاستدلال على مسائل العقيدة: يظن كثير من المهتمين بدراسة العقيدة أنه لا يصلح الاستدلال على مسائلها إلا بدليل قطعي، سواء كانت تلك المسائل من أصول الدين أم من فروعه، وأنه لا يصلح حديث الآحاد دليلًا على مسائل العقيدة كلها، وهذا ظن خاطئ، فمسائل العقيدة كما بينا منها ما هو من أصول الدين ومنها ما هو من فروعه، والأصل أن يستدل عليها بالقرآن والسنة النبوية، سواء في ذلك كون الحديث متواترًا أم آحادا، ثم إن الحديث الآحاد ليس على مرتبة واحدة، وإنما على مراتب يختلف بعضها عن بعض، منها ما يفيد اليقين وهو الذي احتفت به قرائن تدل على ذلك، ومنها ما كان مجردًا عن القرائن فلا يفيد إلا الظن.
وعند الاستدلال على بعض مسائل العقيدة يُستَدل عليها بالحديث الآحاد الدال على اليقين، وذلك لأن تلك المسائل هي من أصول الدين وليست من فروعه، أي صحَّ الاستدلال عليها باعتبارها من أصول الدين، وليس لأنها من مسائل العقيدة فقط، وهذا ما نجده في مؤلفات أئمة السلف، فما كان من مسائل العقيدة من أصول الدين فإن مما يستدلون به عليها أحاديث الآحاد الدالة على اليقين، وما كان منها من فروع الدين فإن مما يستدلون به عليها أحاديث الآحاد الظنية المجردة من القرائن .
يقول أبو نصر السجزي (ت: 444 هـ) في بيان ذلك: "وأخبار الآحاد عند أحمد بن حنبل وغيره من علماء النقل ضربان، فضرب لا يصح أصلاً، ولا يعتمد، فلا العلم يحصل بمخبره ولا العمل يجب به، وضرب: صحيح موثوق بروايته وهو على ضربين: نوع منه قد صح لكون رواته عدولاً، ولم يأت إلا من ذلك الطريق، فالوهم وظن الكذب غير منتف عنه، لكن العمل يجب، ونوع: قد أتى من طرق متساوية في عدالة الرواة، وكونهم متقنين أئمة متحفظين من الزلل، فذلك الذي يصير عند أحمد في حكم المتواتر". ومن أبرز ما يذكر دليلًا على هذا؛ تحول الصحابة عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة بخبر الواحد.
وهذا يؤكد على ما قلناه من أن مسائل العقيدة ليست كلها على مرتبة واحدة، فمنها ما هو أصل من أصول الدين يفيد اليقين والقطع، ومنها ما هو فرع مبناه على غلبة الظن، وهذا التفصيل الموجز يُرد به على من أطلق القول بأن أهل السنة والجماعة يستدلون بالآحاد على مسائل العقيدة دون تفريق منه لتلك المسائل هل هي أصل أم فرع، ودون تفريق بين ذلك الاحاد هل كان محتفًا بقرائن، أو مجردًا عنها.