الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
فإن أدلة الشرع قد دلت على أن العبد يدخل الإسلام بنطقه بالشهادتين، ويحرم بذلك دمه وماله وعرضه في الدنيا، والدار الآخرة هي دار الكرامة للمؤمنين، ينجو فيها المؤمن بإيمانه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي وجه الله".
وإذا كان المسلم عاصيا وقد استحق النار بعصيانه فإنه لا يخلد فيها أبدا، بل ينتفع بهذه الكلمة الطيبة – كلمة التوحيد – فيخلص بها من النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير".
والعلماء يقولون: من ثبت له عقد الإسلام بيقين لا يخرج منه إلا بيقين.
وحديثنا في هذا المقال ليس عن الكافر الأصلي، بل عن تكفير من ثبت إسلامه، والتحذير من هذه الفتنة العظيمة والوقوع في تكفير المسلم بغير بينة أوضح من الشمس في رابعة النهار؛ لما يترتب على الحكم بالردة من أحكام كثيرة مؤثرة في الأفراد والمجتمعات. يقول الغزالي رحمه الله: "ينبغي التحرز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا؛ فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد".
وقد حذر الشرع المطهر أشد التحذير من إطلاق الحكم بالكفر على المسلم بغير بينة واضحة لا إشكال فيها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 94). قال الطبري رحمه الله: " فتبينوا "، يقول: فتأنَّوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينًا حرْبًا لكم ولله ولرسوله.
كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أيضا فقال: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما".
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك".
(قال ابن عبد البر: فقد باء القائل بذنب كبير وإثم عظيم، واحتمله بقوله ذلك، وهذا غاية في التحذير من هذا القول والنهي عن أن يقال لأحد من أهل القبلة: يا كافر.
ويقول ابن دقيق العيد: وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد، فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم.
وفي بيان معنى الحديث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم من أن يقول ذلك لأخيه المسلم … وقيل: معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره … فمعنى الحديث: فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفَّر نفسه لكونه كفَّر من هو مثله …
وقال القرطبي: .. والحاصل أن المقول له إن كان كافراً كفراً شرعياً، فقد صدق القائل، وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت للقائل معرَّة ذلك القول وإثمه). (التكفير وضوابطه – منقذ السقار).
ولقد شَبَّه النبي صلى الله عليه وسلم تكفير المسلم بكبيرة من أعظم الكبائر وهي القتل العمد، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله".
قال الشوكاني (رحمه الله): "إن الحُكم على الرجل بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر، لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدِمَ عليه إلا ببرهان أوضحَ من شمس النهار؛ فإنه قد ثبَت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة: أنَّ ((مَن قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما))، هكذا في الصحيح، وفي لفظ آخرَ في الصحيحين وغيرهما: ((مَن دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه))؛أي: رجع، وفي لفظ في الصحيح: ((فقد كفر أحدهما))، ففي هذه الأحاديثِ وما ورد موردها أعظمُ زاجرًا وأكبر واعظًا عن السِّراع في التكفير، وقد قال عز وجل: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} (النحل: 106)، فلا بد من شرح الصدر بالكفر، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارقِ عقائد الشرك، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقةِ الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعلٍ كفري لم يُرِدْ به فاعلُه الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه".
الحكم بالتكفير حكم شرعي لا مجال للهوى فيه:
مما ينبغي الانتباه له أن الحكم على مسلم بالردة هو حكم شرعي ينبغي أن يستند على الأدلة الشرعية من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع الرجوع إلى العلماء الراسخين الذين عرفوا بالديانة والورع، فلا مجال هنا للأهواء ولا لنزعات النفوس.
لهذا السبب رأينا كيف احتاط الصحابة لدينهم في هذا الباب، روى ابن عبد البر عن أبي سفيان قال: "قلت لجابر: أكنتم تقولون لأحد من أهل القبلة: كافر؟ قال: لا. قلت: فمشرك؟ قال: معاذ الله. وفزع".
وذكر القرطبي في تفسيره أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟ قال: "لا، من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون؟ قال: لا؛ لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل له: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا".
وقد بَيَّن العلماء هذه المسألة وأكدوا عليها تأكيدا، يقول ابن تيمية رحمه الله: " الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل قد يُعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأً في العقل، يكون كفراً في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صواباً في العقل، تجب في الشرع معرفته".
ويقول: "إذا تبين ذلك، فاعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان".
وقال ابن الوزير: " إن التكفير سمعي محض لا مدخل للعقل فيه"، ويقول: "إن الدليل على الكفر والفسق لا يكون إلا سمعياً قطعياً".
ومما سبق يتبين أن الحكم عل مسلم بالردة أو الكفر حكم شرعي لا يصار إليه بالأهواء ولا الشهوات والظنون لما يترتب عليه من أحكام.
من أقوال العلماء في التحذير من التكفير:
لقد حذر علماؤنا قديما وحديثا من الوقوع في هذا الأمر الخطير – تكفير المسلمين – وسنذكر هنا شيئا من أقوالهم في ذلك:
- قال ابن عبد البر: "ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له، أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنباً أو تأول تأويلاً، فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنىً يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة، وهم أهل الفقه والأثر على أن أحداً لا يخرجه ذنبه - وإن عظم - من الإسلام، وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفَّر إلا من اتفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة".
- قال الطحاوي - رحمه الله - عند حديثه عن أهل القبلة وتقريره لعقيدة السلف الصالح: "لا نشهَد عليهم بالكفر ولا بشِرك ولا بنفاق، ما لم يظهر شيءٌ من ذلك، ونذَر سرائرهم إلى الله تعالى".
وقال: " ما تيقن أنه ردة يحكم بها، وما يشك أنه ردة لا يحكم بها، إذ الإسلام الثابت لا يزول بشك، مع أن الإسلام يعلو، وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام".
- قال ابن تيمية - رحمه الله -: "ليس لأحد أن يكفِّرَ أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلِط، حتى تقام عليه الحجة وتُبيَّنَ له المحجة، ومَن ثبت إسلامه بيقين لم يزُلْ ذلك عنه بالشكِّ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".
وقال رحمه الله أيضًا: "ومَن جالسني يعلم ذلك مني: أني مِن أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسَبَ معيَّنٌ إلى تكفيرٍ وتفسيقٍ ومعصيةٍ، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافرًا تارةً، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعمُّ الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية".
بل إن العلماء ينصحون بالتريث والتماس الأعذار للمسلمين قبل المسارعة في تكفيرهم، فإن الخطا في العفو خير من الخطأ في العقوبة، كما يسلم بذلك العبد من الوقوع في المحنة، قال الشوكاني رحمه الله: "فحينئذ تنجو من معرَّة الخطر، وتسلم من الوقوع في المحنة، فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه، ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة، فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كافراً، فهذا يقود إليه العقل فضلاً عن الشرع ..
فحتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح بالكفر صدراً، ويقصر ما ورد مما تقدم على موارده، وهذا الحق ليس به خفاء، فدعني من بُنيات الطريق
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى … ومنهج الحق له واضح".
ويقول عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: "وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه، واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله فيه من أعظم أمور الدين".
إن تكفير المسلم يؤدي ولا شك إلى استباحة الدماء والأموال فينبغي التريث فيه وكف اللسان عمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مناقض لها؛ فإن التكفير فيه الخطر، والسكوت لا خطر فيه.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا البصيرة في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.