الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أدب النفس

أدب النفس

 أدب النفس

العلاقة بين الأدب في التّعامل مع الخلق وحسن الخلق علاقة واضحة لا ريب فيها لأنّ حسن الخلق هو الجانب النّفسي الذي تنتج عنه الآداب الحميدة وأنواع السّلوك المرضيّة، وحسن الخلق هو الذي يُشكّل قواعد السلوك أو الأدب مع الخلق.
والأدب هو اجتماع خصال الخير في العبد.
قال ابن القيم رحمه الله: "وحقيقة الأدب:استعمال الخلق الجميل، ولهذا كان الأدب استخراجا لما في الطّبيعة من الكمال من القول إلى الفعل".
وإنما يكتسب الأدب بالتجربة والتدريب، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّما بُعِثتُ لأُتمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ". (رواه أحمد).

وقد كشف الرسول -صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم القناع عن القاعدة الأساسية التي أساسها حسن الخلق وتطبيقها سلوك الأدب مع الخلق عندما قال: "لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ". (البخاري).
وقال أزْدشيربن بابك: من فضيلة الأدب أنه ممدوح بكل لسانٍ، ومتزينٌ به في كل مكان، وباقٍ ذكره على أيام الزمان.
وقال ابن القيّم- رحمه الله-: وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه. وقلّة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدّنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلّة الأدب.

الأدب في معاملة الناس:
يكفي في بيان صور من الآداب التي أدب الله بها المؤمنين وحثهم عليها في تعاملهم مع الإنسان الاطلاع على بعض الآيات في هذا الشأن، ومنها:
قوله تعالى: {وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} (النساء:86).
وقوله: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31).
وقوله تبارك وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الحجرات: 11-12).
وقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المجادلة: 9).
وقوله سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: 11). وغيرها كثير.

وحكى الأصمعي - رحمه الله تعالى - أن أعرابيًّا قال لابنه: يا بني العقل بلا أدب كالشجر العاقر، ومع الأدب دعامة أيد الله بها الألباب، وحلية زين الله بها عواطل الأحساب، فالعاقل لا يستغني وإن صحت غريزته، عن الأدب المخرج زهرته، كما لا تستغني الأرْض وإن عذبت ترْبتها عن الماء المخرج ثمرتها.

وقال بعض الحكماء: العقل بلا أدب كالشجر العاقر، ومع الأدب كالشجر المثمر.
وقال بعض الشعراء فيه:

فما خلق الله مثل العقول ولا اكتسب الناس مثل الأدب
وما كرم المرْء إلا التقى ولا حسب المرْء إلا النسب
وفي العلم زينٌ لأهل الحجا وآفةُ ذي الحلم طيش الغضب

والتأْديب يلزم من وجهين: أحدهما ما لزم الوالد لولده في صغره. والثاني ما لزم الإنسان في نفسه عند نشوئِه وكبره.
فأما التأْديب اللازم للأب فهو أن يأْخذ ولده بمبادئِ الآداب ليأْنس بها، وينشأ عليها، فيسهل عليه قبولها عند الكبر لاستئْناسه بمبادئِها في الصغر؛ لأن نشوء الصغر على الشيء يجعله متطبعا به. ومن أغفل تأْديبه في الصغر كان تأْديبه في الكبر عسيرا.وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن". (الحاكم).

قال بعض الحكماء: بادروا بتأْديب الأطفال قبل تراكم الأشْغال وتفرق البال. و عن نمير بن أوس قال: كانوا يقولون: الصّلاح من الله والأدب من الآباء.
وقال بعض الشعراء:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولا يلين إذا قومته الخشب
قد ينفع الأدب الأحداث في صغرٍ ... وليس ينفع عند الشيبة الأدب
قال الماوردي رحمه الله:
(وأما الأدب اللازم للإنسان عند نشوئِه وكبره فأدبان: أدب مواضعة واصطلاح، وأدب رياضة واستصلاح.
فأما أدب المواضعة والاصطلاح فيؤْخذ تقليدا على ما استقر عليه اصطلاح العقلاء، واتفق عليه استحسان الأدباء. وليس لاصطلاحهم على وضعه تعليلٌ مستنبط، ولا لاتفاقهم على استحسانه دليلٌ موجب، كاصطلاحهم على مواضعات الخطاب، واتفاقهم على هيئَات اللباس، حتى إن الإنسان الآن إذا تجاوز ما اتفقوا عليه منها صار مجانبا للأدب، مستوجبا للذم.
لأن فراق المأْلوف في العادة، ومجانبة ما صار متفقًا عليه بالمواضعة، مُفضٍ إلى استحقاق الذم بالعقل ما لم يكن لمخالفته علة ظاهرة ومعنًى حادث..
وأما أدب الرياضة والاستصلاح فهو ما كان محمولًا على حالٍ لا يجوز في العقل أن يكون بخلافها..فأول مقدمات أدب الرياضة والاستصلاح: ألا يسبق إلى حسن الظن بنفسه، فيخفى عنه مذْموم شيمه ومساوئُ أخلاقه؛ لأن النفوس بالشهوات آمرة، وعن الرشد زاجرة. وقد قال الله تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف: 53). وقد قيل: أعدى أعدائِك نفسك التي بين جنبيك.
فإذا كانت النفس كذلك فحسن الظن بها ذريعة إلى تحكيمها، وتحكيمها داع إلى سلاطتها وفساد الأخلاق بها. فإذا صرف حسن الظن عنها وتوسمها بما هي عليه من التسويف والمكر فاز بطاعتها، وانحاز عن معصيتها.
وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: العاجز من عجز عن سياسة نفسه...
وقال الأحنف بن قيس: من ظلم نفسه كان لغيره أظلم، ومن هدم دينه كان لمجده أهدم).
نسأل الله تعالى أن يزكي نفوسنا، ويلهمنا رشدنا، ويرزقنا الأدب وحسن الخلق.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة