المفاهيم الشرعية المتعلقة بالأسرة من القضايا التي تحتاج إلى تأكيد وبيان، ومن ذلك مفهوم الولاية على المرأة في النكاح، فهل جعلت الشريعة ولاية الرجل على المرأة لتقييد حريتها، وحرمانها من حقوقها ككيان بشري مستقل؟! أم أن الشريعة جعلت الولي لمساعدة المرأة في الوصول إلى الخيار الأمثل، وحفظ حقوقها المادية والمعنوية؟، وهذا هو الجواب الذي لا مرية فيه، ومن خلال ما ورد في السنة النبوية من الروايات التي تتصل بذات الموضوع تتبين الحكمة التشريعية من ذلك، وذلك من خلال الآتي:
أولا: الاعتراض على الولاية ببعض تصرفات الأولياء:
غالبا ما يحصل التشغيب على القضايا الشرعية بالتركيز على التصرفات السلبية لبعض المكلفين، ويراد من خلال ذلك إلغاء الحكم الشرعي نفسه، فعلى سبيل المثال إذا وجد من بعض الأولياء ظلم وتعسف جعلوا ذلك سبيلا للطعن في الحكم الشرعي من أساسه، وهذا منهج فاسد؛ إذ لو اطرد أصحابه في استعماله لأدى إلى هدم كل المقررات الشرعية، والقوانين الإنسانية، والأعراف الاجتماعية؛ إذ ما من حكم ولا قانون ولا حق إلا ويوجد من يتعسف فيه، أو يجاوز الحد في استعماله، فالعقول السليمة تقضي بمعالجة التصرف السلبي، والحفاظ على الحكم أو القانون أو العرف.
فالزواج على سبيل المثال ضرورة إنسانية قبل أن تكون حكما شرعيا، ومع ذلك فالمحاكم تكتظ بقضايا الخلافات الزوجية، وفيها من التعسف والإساءات الشيء الكثير، فلو اطردنا بطريقة الاعتراض السابق لرجعنا على الأصل بالإبطال وهو الزواج ذاته، لكن هذا لا يقول به عاقل، وبالتالي فإن أخطاء الأولياء لها حلول للحد منها مع الحفاظ على الدور الإيجابي الذي يكفله الولي للمرأة.
ثانيا: المعالجات الشرعية لعضل الأولياء:
أولا: جعلت السنة النبوية اعتبارا لرأي المرأة في زواجها، فلم يلغ حقها في الموافقة أو الرفض في اختيار الزوج، فالبكر يطلب إذنها، والثيب تستأمر أي: يطلب أمرها بأن تمضي الزواج أو ترفضه، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن»، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت».
قال الخطابي في معالم السنن: ظاهر الحديث يدل على أن البكر إذا أنكحت قبل أن تُستأذن فتصمت أن النكاح باطل، كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر فتأذن بالقول، وإلى هذا ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وهو قول أصحاب الرأي. انتهى. وفي المسألة أقوال فقهية أخرى، ولكن الجميع متفقون على اعتبار إذن البكر وأمر الثيب، وإن اختلفوا جعله شرط صحة أو لا.
ثانيا: جعلت السنة النبوية للمرأة مسلكا حقوقيا لاسترداد حقها في اختيار الزوج فيما لو صادره الولي فزوجها ممن تكرهه، وليس كفؤا لها، وذلك بأن ترفع أمرها إلى جهة الاختصاص في القضاء.
فقد روى أبو داود عن ابن عباس أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد، ومجمع بن يزيد الأنصاريين: «أن رجلا منهم يدعى خِذَامًا أنكح ابنة له، فكرهت نكاح أبيها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له، فرد عليها نكاح أبيها» فنكحت أبا لبابة بن عبد المنذر.
وروى النسائي من حديث عبد الله بن بريدة عن عائشة: «أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني بن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله قد اخترت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم أن للنساء من الأمر شيء».
ثالثا: الحكمة التشريعية من ولي النكاح:
من البدهيات المعروفة أن الوازع الطبعي يمنع الولي من ظلم موليته، أو التفريط بها؛ فهي عِرْضُه، ويلحقه بالتفريط بها اللوم والعار، ولكمال شفقته بالطبع الإنساني كان الأصل فيه أنه مؤتمن عليها، وعلى مصلحتها في الزواج، وهذا المعنى أشار إليه القرافي في الفروق، ولذلك كان شرط العدالة في الولي شرطا متمما وليس موضع إجماع بين الفقهاء؛ لاعتضاده بالوازع الطبعي بحيث لا تسمح له نفسه في غالب الأحوال أن يفرط بعرضه، ولذلك كان للأب خصوصية في ولايته على البكر من بين سائر الأولياء في الانفراد بتزويجها بالكفؤ؛ لكمال شفقته فلا يتصور مع ذلك أن يفرط بها، وإن وقع خلاف ذلك فهو نادر، والشريعة جاءت للأعم الغالب.
ومما لا يستطيع أحد إنكاره أن المرأة بطبيعتها قد يستخفها في كثير من الأحوال من ليس كفؤاً لها؛ لما ركبه الله فيها من الميل الطبعي إلى الرجل، والرغبة الفطرية بالزواج، فقد يكون قرارها تحت تأثير العاطفة وبعيدا عن العقلانية والخبرة، فهي لم تخالط الرجال ولم تخبر التعامل معهم، إضافة إلى ما يحصل من التصنع والخداع من بعض الرجال للنساء، كل هذا وغيره قد يتسبب في ضياع حقوق المرأة لو استقلت بقرار اختيار الزوج، أو زوجت نفسها سرا دون علم أوليائها، ثم إن اختيارها غير الكفؤ لا يقتصر ضرره على شخصها فقط، بل يتضرر بها أولياؤها وأقاربها، ولذلك ينص الفقهاء أن وليها الأقرب لو زوجها بغير الكفؤ كان لوليها الأبعد المطالبة بالفسخ؛ لما يلحقه من العار بسبب ذلك، فضلا عما لو فعلت ذلك بدون علم جميع أوليائها.
إضافة إلى أن من حكمة الشريعة في جعل المرأة لا تباشر نكاحها بنفسها ما جبلت عليه المرأة من الحياء، فمن محاسن الشريعة وجمالياتها أن جعل ذلك للولي، صيانة لها مما يقدح في حيائها، من خلال إظهار رغبتها بالرجال، وظهورها عليهم بنفسها في مجالسهم ونواديهم، فالشريعة لا تأتي إلا بكل خير، ولا تضع الأمور إلا في مواضعها، في أحسن الأحوال والطرائق.
يقول السبكي في الإبهاج: لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد ؛ لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال ، وذلك غير لائق بالمروءة ، ففوضه الشرع إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج. انتهى.
وحضور الولي أهيب للمرأة في نفوس الرجال، وأبعد لها عن طرائق الاستغلال التي لم تعد خافية، فالولي يجعل لها في نفس الزوج احتراما ومكانة، فالمرأة التي لا سند لها من أوليائها وعصبتها غالبا ما تكون عرضة للاستخفاف وضياع الحقوق، فهي ضعيفة غالبا عن انتزاع حقوقها في حال الخلاف والخصومة، لا سيما مع فساد الزمان، وضياع المروءات، وتصحر الأخلاق عند بعض الأزواج، وقديما قالوا: من قلَّ ذلَّ
أي: من قلَّ أنصاره غُلبَ. وهذا في حق الرجال فضلا عن المرأة، وفي هذا المعنى يقول النابغة:
تعدو الذئابُ على من لا كلابَ لهُ ... وتتَّقي مربضَ المستنفر الحامي
فهذا جانب مِن تلمُّس الحكمة التشريعية لولي النكاح، وهو يزيد المسلم طمأنينة بجماليات هذه الشريعة، وارتباط أحكامها بالمصلحة الإنسانية، ومعقولية نصوصها، وسمو مقاصدها، فلا عبث في مقرراتها، ولا تعنت في تكاليفها، وإنما يؤتى البعض من ضعف اطلاعهم على شريعتهم، فتقع الشُّبَهة -وإن كانت واهية- من قلوبهم موقعا، مما يستدعي من المسلمين التأمل في الأحكام وربطها بمقاصدها وغاياتها وحِكَمِها، ولينظروا في مآلات الدعوات المضادة لعدالة الإسلام، فهل سيجدون إلا الضياع والفساد، فلن تسعد البشرية بأعدل من الإسلام وتشريعاته، فتحت ظلاله العدل والرحمة والإنصاف والمصلحة والسعادة في الدارين.