
وإني كلما رأيتُ «شريدَ الأمس» يتنقَّلُ بينَ مواكبِ الملوك، وقصورهم، تذكرتُ قولَ الحقِّ المتعالي: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26]. فقد أقامَ الملكَ بينَ فعلينِ متضادَّين، إمعانًا في الكشفِ عن سُنَنِ الإلهِ في المنعِ والعطاء، فلفظُ الإيتاء إيماءةٌ مدهشة إلىٰ أنَّ العطاءَ الإلهي محضُ تمليكٍ بلا مغالبةٍ ولا قهر، بل هو جودٌ مطلقٌ يجري بمحضِ الإرادةِ العليا، يخصُّ به مَن شاءَ مِن خلقِه.
فلو قلبتَ النَّظَر مليًّا فيما آلت إليهِ شامُ العروبة، والعزائم المتجذِّرِة في حنايا الجبال؛ لوجدته محض إيتاءٍ سخيٍّ، لم يكن في الحُسبان، ولم يخطر يومًا في خَلَدِ متفائلٍ مغرقٍ في الرَّجاء، فضلًا عن الذينَ وخَطَهم شيبُ اليأس، حتى استقرَّ في روْعهم أنَّ الأرضَ قد زُلزلت بأهلها، وأنها لم تعد لهم.
وفي التَّعبير «بـ [مَنْ] العامَّة للعقلاءِ إشعارٌ بمنالِ الملك من لم يكن من أهله»، كما يقولُ العلامةُ البقاعي، وأنَّ التَّمكينَ قد ينال من لا يُظَن به، وأحقُّ الخلقِ بالبُعْدِ عنه – لطبيعتهم وتاريخهم – هم من تبوأوا مقاليد الحكم اليوم في أرضِ بني مروان. ولو أنكَ تمعَّنتَ في تقلُّباتِ الدَّهر، لرأيتَ كم من محبٍّ للرِّياسة، متطلِّبٍ للملك، لم يَزَل مُتمكِّنًا مِنْ قَلبهِ إِلىٰ أَن أَخلَقَ بُردَ شَبابِهِ، وتضاعَفَ عقود عُمُرهِ؛ دونَ أن يرى لمسعاهُ ثمرةً، ولا لرجائهِ أثرًا.
ولا أرى ما وقَعَ إلا تصديقًا لقولِ الحقِّ جَلَّ مجده: (إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، فذلكَ تدبيرٌ إلهيٌّ تَحقَّقَ أوانه، وحكمةٌ عليا جرت بمقتضى المشيئةِ الأزلية، وهو إيتاءٌ مُجرَّد، يدخلُ فيه الصَّالحُ والطالح، وإنما تُعرف العواقبُ بالخواتيم: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
النَّزْع: السُّقوط من قمةِ الأمن
ثمَّ تأمل في الفعلِ المقابل «تَنْزِعُ»، وما ينطوي عليه من معاني القلعِ والاجتثاثِ والبطشِ الشَّديد، بعد أن كان صاحبُ الملكِ آمنًا، مطمئنًا إلىٰ ما بيده، وإنَّ مِن أشدِّ ما يفجعُ المرءَ أن ينهارَ به درجٌ وَثِقَ بمتانته، فكذلكَ نزْعُ المُلك؛ فقد جاءَ النصُّ القرآنيُّ كاشفًا عن كُنههِ بأوضحِ صورة: (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)، فحسبُكَ بذلكَ دلالةً علىٰ ما يحملهُ فعلُ "النَّزْع" من ظلالِ الشِّدةِ والقوةِ والاستئصال والبتر، خلافًا لما يوحي به "الإيتاء" من معاني الهِبَةِ والبسطِ والتمكين.
فما أصدقَ ما وعتهُ الأسماعُ من أنَّ الأيَّامَ دُوَل، وأنَّ للدَّهرِ تقلُّبًا لا يثبتُ معهُ مُلكٌ ولا يستقرُّ سلطان، فإذا بالعرشِ المنيفِ تَتَخطَّفُهُ أيدي الرِّياح، وإذا بالقلاعِ الحصينة تتهاوىٰ تحتَ وطأةِ أمرٍ إلهيٍّ نافذٍ، لا يُردُّ ولا يُدافَع، فلا الغفلةُ تُطيلُ أمدَ التَّمكين، ولا الحذرُ يدرأُ حتمَ الزَّوال، فما زالتِ الدُّنيا منذُ أولِ الخليقةِ تعِظُ النَّاسَ بهذا الدَّرسِ الجَلَل، ولكنَّ قلَّ من يتَّعظُ.
مصارع الجبابرة: درسٌ لا يُتَّعظُ به
ولو أبصرتَ كيفَ تُنتَزَعُ الرياسةُ من أصحابِها، لأدركتَ أنَّ سُنَّةَ اللهِ تمضي غيرَ مباليةٍ بعُلوِّ قصرٍ أو سُؤددِ اسم، فكم من تاجٍ زُوي عن مفرِقِ صاحبهِ في غمرةِ ثقتِه بعصبه، وكم من رايةٍ خُفِضتْ يومَ لم يخطرْ لقابضِها أنْ تُنتزعَ من بين يديه! وإنَّ في حكاياتِ الملوكِ في طيِّ التَّاريخ عبرةً لمن تأمَّل، إذ لم يزل المُلكُ معقودًا بِرِقابِهم، يَرفُلُونَ في زينةِ التَّمكين، حتىٰ إذا جاءَ أمرُ اللهِ، كانوا كمن طُويتْ صفحتُهُ بغتةً، فلا يَدٌ تدفعُ، ولا حصنٌ يمنعُ، ولا عهدٌ يُراعىٰ.
وما أبلغَ ما صوَّرهُ القرآنُ من سُنَّةِ اللهِ في الانتزاعِ حينَ قذفَ فرعونَ في لججِ الغرقِ بعدما ظلَّ يتوهَّمُ أنَّ الأنهارَ تجري مِن تحتِهِ، فما أغنىٰ عنهُ من شيءٍ حذرُهُ، ولا جازَ بهِ إلىٰ النَّجاةِ حِيَلهُ، إذ لم يكن ذلكَ لضعفٍ في تدبيرهِ، ولا لخورٍ في حُكمهِ، وإنما هو قضاءٌ ماضٍ، وَمَشِيئةٌ لا يَردُّها شيء.
وهذا ما يجعلُ العاقلَ، إذا رُزِقَ نعمةَ الحُكمِ أو التَّمكين، لا يغترُّ برونقها، ولا يأمنُ تبدُّلها، بل يكونُ ناظِرًا إلىٰ فَضْلِ اللهِ في كُلِّ حال، مستمسكًا بحبله، متوسِّلًا إليهِ أن يجعلَ عاقبةَ أمرهِ خيرًا، فإنَّ المُلكَ لا يثبتُ إلا برِضا الله، ولا يدومُ إلا بصلاحِ العبدِ في تدبيرهِ، فإن كانَ ذلكَ، فقد ارتقىٰ درجاتِ السَّؤددِ، وإن زَهِدَ في كلِّ مظهرٍ مِن مظاهرِ العظمة، وإن لم يكن، فلا حصانةَ لهُ من فناءِ مجدِه، ولو استوىٰ علىٰ أرسخِ العروش.
فالمُلكُ في عاقبةِ المطاف ليسَ مالًا يُقتنىٰ، ولا إرثًا يُورَّث، وإنَّما هو أمانةٌ يُبتلىٰ بها العباد، فمن أداها بحقِّها فازَ في العاجلِ والآجل، ومن فرَّطَ فيها كانَ هو المفجوعُ بها يومَ تُنتزعُ منهُ انتزاعًا، ولو أُوتيَ مِن أسبابِ الدُّنيا ما لم يُؤتَ أحدٌ مِن العالمين.
ومَلاكُ القول
إنَّ من لا يعجزهُ شيءٌ، قادرٌ على تبديلِ كلِّ شيء، فشريدُ الأمسِ قائدُ اليوم، وكم من طريدٍ بينَ قومهِ أضْحى سيِّدًا مطاعًا، فما على المرءِ إلا أن يعملَ، ويستفرغَ الجهد، ويستجدي العونَ من الله، فإن بَوَّأهُ الإلهُ مأموله، فذاكَ فضلُهُ يؤتيه من يشاء، وإن لم يكن، فكفاهُ شرف السَّيْرِ في ركبِ المجدِ، ودرب الرجولة الأبي.