
الثقافة الإسلامية ليست مجرد إطار ديني أو مجموعة من العبادات، بل هي نسيجٌ حضاريٌّ شاملٌ جمع بين الوحي والعقل، الروح والمادة، الفرد والمجتمع، لقد شكَّلتْ هذه الثقافةُ عبر القرون هويةً عالميةً امتزجت فيها القيمُ السماويةُ بالإنجازات الإنسانية، فأنتجت حضارةً علميةً وفنيةً وأدبيةً ما زال العالمُ ينهل منها حتى اليوم.
تقوم الثقافة الإسلامية على ثلاثة أركان رئيسة:
1-العقيدة والتوحيد: فالإيمان بالله الواحد هو حجر الزاوية الذي يُشكّل رؤية المسلم للكون والحياة، هذه العقيدة لا تنفصل عن السلوك اليومي، بل تتحول إلى أخلاقٍ عمليةٍ كالعدل، الصدق، والرحمة.
2- الشريعة والمنهج: لا تقتصر الشريعة على الأحكام الفقهية، بل هي نظامٌ متكاملٌ ينظّم العلاقات بين البشر، ويضمن التوازن بين الحقوق والواجبات.
3- المعرفة والعلم: فقد حثَّ الإسلام على طلب العلم، وكانت "اقرأ" أولى كلمات الوحي، وهذا ما أنتج نهضةً علميةً شملت المعارف والعلوم كلها، ولم تستثن علماً من العلوم؛ ولذلك لا غرو أن تجد في علماء الإسلام في قرونه الأولى من تخصص منهم وبرع في الطب، والفلك، والرياضيات، والفلسفة.
ومن الملامح العامة لثقافتنا الإسلامية، التأكيد على التعليم والمعرفة؛ ولذلك كان للعلماء دور بارز في نشر المعارف والعلوم، حيث أسسوا المدارس والمكتبات، وتركوا إرثًا علميًا ضخمًا في مجالات الطب، الرياضيات، الفلسفة، والأدب، إن هذا التركيز على التعليم جعلنا في طليعة الحضارات خلال عصور نهضتنا، حيث انتشرت العلوم، والفنون في مختلف أنحاء العالم، من الأندلس إلى الهند.
من مظاهر الثقافة الإسلامية في الجانب الحضاري:
1- العمارة والفنون برع المسلمون في العمارة، فبنوا المساجد ذات القباب الشامخة، والمآذن الرشيقة، وزينوها بالزخارف الهندسية، والخط العربي، كما في مسجد قرطبة، وقبة الصخرة، إلى القصور التي تعكس براعة الحرفيين، وتجسد هذه الأعمال الفنية القيم الإسلامية في الجمال والتناسق، ورغم ذلك تميزت هذه الفنون الإسلامية، بالابتعاد عن التصوير المباشر، مع التركيز على التجريد والخط، مما أعطاها طابعاً روحياً مميزاً.
2- الأدب والشعر كان للعرب تراثٌ شعريٌ عريقٌ منذ الجاهلية، ولكن الإسلام أضفى عليه بُعداً أخلاقياً وإنسانياً، فظهرت قصائدُ تمجد الأخلاق، وتنادي بالقيم المثلى، وكان الشعراء يُلقون قصائدهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتفاعل مع جيد الشعر ورصينه؛ كما فعل مع حسان ودعا له، وكما تفاعل مع كعب ابن زهير لما أنشده" بانت سعاد" وأهداه بردته، وكرّمه، وتتابع الخلفاء والأمراء من بعد ذلك يحتفون ويحتفلون بالشعر، والأدب الذي يُؤسس لقيم الخير، ويربي الأجيال على المكارم، والخصل الحميدة، وكان لأدب النثر حضوره وجمهور كما تشهد بذلك "مقامات الحريري"، وغيرها من مقامات، ومساجلات أدبية، دونت، وحفظت، وتبارى فيها الناس.
3- العلوم والابتكارات أسهم علماء المسلمين في تطوير علومٍ كثيرةٍ نُقلت إلى أوروبا لاحقاً، مثل: الطب والهندسة، وعلوم الفلك وغيرها، وقد اعترف مؤرخو أوربا أن الطب عندهم اعتمد فيما اعتمد على كتب، وأصول عربية ككتاب "القانون في الطب" لابن سينا، وكتاب "الحاوي" للرازي ، واعتمدوا في العلوم الأخرى كعلم الفلك على ابتكارات البيروني، ومراصد الخليفة المأمون، كما استفادوا في مجال الرياضيات مما طوره المسلمون من نظام الأرقام، وما قدموه في الجبر مما كتبه الخوارزمي وغيره، من أبناء الحضارة الإسلامية.
وعلاوة على كلما سبق، كانت الثقافة الإسلامية تحتفي بالتنوع والاختلاف، فهي ليست ثقافة واحدة، بل هي مجموعة من الثقافات المتنوعة التي تعكس تجارب الشعوب المختلفة، المتحدة تحت راية الدين العظيم من الفولكلور الشعبي إلى الأدب الكلاسيكي؛ ولذلك نجد أن كل منطقة تحمل بصمتها الفريدة التي تساهم في إثراء الكنز الثقافي الإسلامي.
بعد كل هذا التاريخ الحافل نقف اليوم على مفترق طرق بسبب العولمة، وغياب البوصلة، وانبهار كثير من أبناء حضارتنا بالغرب مما أدى إلى فقدان الهوية، والاستلاب الحضاري.
مع أسباب أخرى ليس أقلها ما نشاهده من تشويه للإسلام، واختزال لمفهوم الدين، ومحاولة حصره في المساجد والزوايا، وما يحدث من معارك مفتعلة بين الأصالة، والحداثة، وكيفية التوفيق بين الثوابت الإسلامية، ومتطلبات العصر..
ورغم كل ذلك نستبشر ونستشرف مستقبلاً مشرقاً؛ لأن التاريخ يُثبت أن الثقافة الإسلامية قادرةٌ على التجدد، كما فعلت أيام العباسيين والأندلس، حيث مزجت بين التراث والعلوم الوافدة، فأوجدت نموذجاً فريداً.
نحن موقنون أن الثقافة الإسلامية ليست تراثاً من الماضي، بل هي مشروعٌ متجددٌ يحمل رسالةَ خيرٍ وعدلٍ للعالم، إنها ثقافةٌ تقوم على التوحيد، وتنبذ التعصب، وتدعو إلى الحوار الحضاري.
ولاستعادة دورنا يحتاج المسلمون اليوم أن يعيدوا اكتشافَ هذه الثقافة بكل أبعادها: الروحية، العقلية، والفنية، فكما قال الشاعر محمد إقبال:
أمةٌ لا تُحيي تراثَها كالغريقِ | الذي يخوضُ عباباً بلا قارب | |
فليكن إحياءُ الثقافة الإسلامية جسراً نعبر به من حاضرنا إلى مستقبلٍ يُحفظ فيه للإنسان كرامته، وللحضارة توازنها.
وختاماً:على الأجيال الجديدة أن تدرك أن ثقافتنا الإسلامية كانت نتيجة تجسيد لتاريخ طويل من التفاعل بين الدين والفكر والفن، إنها ليست مجرد ماضٍ يُستذكر، بل هي حاضرٌ يُعاش ومستقبلٌ يُبنى، من خلال فهم الجذور والملامح العامة لهذه الثقافة، يمكننا أن نُدرك أهميتها في العالم المعاصر، ودورها في تعزيز قيم التفاهم والسلام الحقيقي بين الشعوب.