الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإنسان: تكريم إلهي يفوق الحدود

الإنسان: تكريم إلهي يفوق الحدود

 الإنسان: تكريم إلهي يفوق الحدود

في عالمٍ باتت فيه الكرامة الإنسانية تُنتهك تحت وطأة الحروب والتمييز والعنصرية، يبرز الإسلام كمنظومة متكاملة تُعلي من شأن الإنسان وتُعيد له مكانته التي يستحقها.إنه الدين الذي لم يجعل الكرامة حكرًا على عرقٍ أو جنسٍ أو لون، بل كرم الإنسان لمجرد كونه "إنسانًا"، من لحظة نفخ الروح فيه، إلى أبسط حقوقه في العيش بكرامة.
ووضع الإسلام للإنسان تشريعًا يُحافظ على حياته، ويصون حريته، ويحترم عقله، ويضمن له المساواة والعدل، ومنذ أن خلق الله الإنسان، جعله مكرمًا ومفضلًا على كثير من مخلوقاته، وجعل له منزلة عظيمة في الكون، بل وأسجد له الملائكة.
فما مظاهر هذا التكريم؟ وكيف صاغت الشريعة الإسلامية منهجًا فريدًا يحفظ للإنسان إنسانيته في الدنيا والآخرة؟ لنكتشف ذلك من خلال هذا المقال.

أولًا: التكريم الإلهي للإنسان في الخلقة والنشأة
أول صور التكريم تظهر منذ لحظة الخلق. فقد خلق الله الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.
قال تعالى:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70).
وهذه الآية تمثل أساسًا صريحًا للتكريم؛ حيث شملت جميع بني آدم.
وقال تعالى عن خلق آدم:
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (ص: 72). وفي بيان وجه آخر من أوجه التكريم الإلهي للإنسان عند خلقه يقول الله تعالى منكرا على إبليس عدم سجوده لآدم: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} (ص: 75).
كما إن من مظاهر التكريم في الخلق الصّورة الحسنة، كما في قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} (التغابن: 3). والقامة المعتدلة، كما قال عزّ وجلّ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين:4).

ثانيًا: تكريم الله للإنسان بتسخير ما في السماء والأرض
بعد أن خلق الله الإنسان أكرمه بالنّعم العظيمة الّتي لا تعدّ ولا تحصى، ومن هذه النّعم تسخير ما في السّماء الأرض ليرزقه بها، ومن هذه النّعم إنزال الله الماء من السّماء، هذا الماء الذي جعل الله منه كلّ شيء حيّ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء:30)، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ} (الزمر:21)، وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ} (البقرة:22).
لقد سخّر الله عزّ وجلّ للإنسان- تكريما له- ملكوت السّموات، بما تشتمل عليه من نجوم، وشموس، وأقمار، وجعل في نظامها البديع ما ينفع الإنسان من تعاقب اللّيل والنّهار، واختلاف في الفصول ودرجات الحرارة ونحو ذلك، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل:12)، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية:13). والمراد بهذا التّسخير هو تمكين الله- عزّ وجلّ- الإنسان من أن يستخدم ما خلقه الله في تطبيقات عمليّة نافعة له في مجالات حياته المختلفة.

ثالثا: تكريمه بالعقل والحرية والمسؤولية
من أعظم أوجه التكريم أن الله منح الإنسان عقلًا يميز به بين الخير والشر، وأعطاه حرية الاختيار والتكليف، دون أن يُجبره على الإيمان أو الكفر.
قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 3). وكما قال:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256)، وهذا يدل على احترام الإسلام لحرية الاعتقاد.

رابعًا: تكريم الإنسان بالحفاظ على حياته وكرامته
جعل الإسلام النفس الإنسانية محترمة مصونة، وجعل قتل النفس الواحدة بغير حق كقتل الناس جميعًا.
قال تعالى:{مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة: 32).
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: "لَزَوَالُ الدنيا أَهْوَنُ على اللهِ من قَتْلِ مُؤْمِنٍ بغيرِ حقٍّ". (ابن ماجه).

خامسًا: تكريم الإنسان بالمساواة والعدل
لا يُفرِّق الإسلام بين الناس على أساس اللون أو العرق، إنما أساس التفاضل بينهم التقوى، فالناس سواسية، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13).
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ، ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ، ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسْودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى، إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ". (البيهقي).
كما أوجب الإسلام إقامة العدل بين الناس حتى مع الأعداء، وحرّم الظلم بجميع أشكاله. قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} (المائدة: 8).

سادسا: تكريم الإنسان بفتح باب التوبة ومغفرة الذنوب
جعل الإسلام باب التوبة مفتوحًا لكل إنسان مهما بلغت ذنوبه، وأكد أن الله يغفر جميع الذنوب.
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (الزمر: 53).
ولا شك أن هذا من صور التكريم الإلهي للإنسان، ولك أن تتخيل لو أن الإنسان أُخذ بذنوبه ولم يفتح له باب للتوبة والمغفرة كيف يكون الحال في الدنيا والآخرة؟!!.

سابعا: تكريم الإنسان بحفظ كرامته بعد الموت
يحظى الإنسان بالاحترام والتكريم في الإسلام - حتى بعد وفاته – فغسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه بكرامة، كلها مظاهر لتكريمه بعد موته.
وكما حرم الإسلام الاعتداء على الإنسان حيا فقد حرم الاعتداء عليه بعد وفاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كسر عظم الميت ككسره حيًا" (رواه أبو داود).

إن تكريم الإنسان في الإسلام لم يكن مجرد شعارات أو نظريات، بل هو نظام شامل يظهر في التشريع، والأخلاق، والمعاملة، ويؤكد على قدسية الحياة وحرية الإرادة وكرامة الإنسان، ولهذا فإن الإسلام يمثل أعظم رسالة في الدفاع عن الكرامة الإنسانية.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة