الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إسرائيل.. كنموذج للحداثة الوحشية

إسرائيل.. كنموذج للحداثة الوحشية

إسرائيل.. كنموذج للحداثة الوحشية

في بعض الأحيان، يتراءى لنا التاريخ كأنه شاعر ماهر، ينقح قصائده بعناية، ويعكف على تزيين استعاراته وصقل بلاغة كلماته.. ولعل مذبحة "الركبة الجريحة" تجسد هذا الشعور بأبلغ صورة.

فبعد قرون من المذابح والقتل الوحشي بكل الطرق والوسائل الممكنة، جاءت النهاية الحزينة لنضال السكان الأصليين لأميركا (الهنود الحمر) في عام 1890 عند غدير "الركبة الجريحة". فهناك، تم قتل "الثور الرابض" (سيتينغ بول)، آخر الزعماء المهمين، ومن بعدها خضعت القبائل للقوانين القاسية التي فرضتها حكومة الولايات المتحدة بهدف تدجين الناس في محميات خاصة، ليمحى أثرهم تدريجيا ويصبحوا أقلية صامتة بلا صوت ولا قيمة، بعد أن كانت الأرض لهم، والماء لهم، والسماء كلها.

لم يقتصر الأمر على موتهم الجسدي، بل تجاوز ذلك إلى تشويه سيرتهم ووصمهم بالوحشية، في حين أن الجرائم الفعلية هي تلك التي ارتكبت بحقهم.. هكذا شوّه وجودهم، وحرف تاريخهم، وسلب مستقبلهم، باسم الحضارة.

جسدت مذبحة "الركبة الجريحة" النهاية المأساوية، وكأن التاريخ قد كتبها بصيغة سينمائية كمشهد نهاية لرواية حزينة، مكثفا قصة طويلة ومؤلمة في لقطات درامية معدودة، تلخص حكايات كثيرة عن حضارتنا اليوم، وما يخصها من سفك الكثير من الدماء.

اليوم، لا يستطيع أحد في العالم الهروب من أصوات الحرب على غزة؛ فهي -ببساطة- قد رفعت تناقضات العالم إلى الواجهة، وأظهرت حقيقة أن تحت مسرح الحضارة اليوم الكثير من الجثث والدماء.

فعندما صرح رئيس إسرائيل إسحاق هرتسوغ قائلا: "هذه الحرب ليست حربا بين إسرائيل وحماس فقط، إنها حرب تهدف حقا إلى إنقاذ الحضارة الغربية وقيمها"، لم يكن بإمكانه أن يكون أكثر وضوحا، فلطالما شنت الحروب الغربية لفرض ما يسمى "القيم" الغربية وتطبيقها وحمايتها.

ضمنيا، هو لم يكذب، فهو يتحدث عن شكل وقيم الحداثة اللتين تسوقهما دول تأسست على الإبادات الجماعية، والتطهير العرقي، والفصل العنصري، وسرقة الأراضي، والعنصرية البنيوية.

ما قصده رئيس الاحتلال هو الدفاع عن استمرار هذا النمط من التفاعل الحضاري الغربي، الذي يتعامل مع الاستعمار كحدث عرضي في الماضي انتهى، مانحا شرعية للمستوطنين والمستعمرين الذين نهبوا الأراضي بالقوة منذ زمن، وربطوا أنفسهم بها من خلال الإقامة وبناء الشركات والمجتمعات، في محاولة لإضفاء شرعية على وجودهم وكأنه طبيعي لا جدال فيه. وأي محاولة من أصحاب الأرض المقهورين لاستعادة بيت أو أرض مفقودة تعد رجعية وإرهابية، تسعى لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.
فمنذ لحظة إعلانها كدولة، تمارس إسرائيل وجودها كمشروع استعماري استيطاني، يقوم على الإقصاء والعنف والإبادة المنظمة. لم يكن ذلك سرا، فالمجازر ليست استثناء في تاريخها، بل هي البنية التأسيسية.

والطرد، والحصار، والهدم، والسيطرة بالسلاح، ليست أدوات طارئة، بل اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا الكيان. حربها على غزة اليوم ليست نقطة تحول، بل هي امتداد متسق لفلسفة قامت منذ البدء على نفي الآخر، خصوصا إذا كان هذا الآخر عربيا وفلسطينيا.

لكن هذه الحرب، بكل ما فيها من همجية وتجويع وتدمير، تضع العالم أمام صورته الحقيقية: لم يعد الأمر يتعلق بانتهاكات، بل بنموذج جديد من معسكرات الإبادة، حيث تتحول المدينة المحاصرة إلى مختبر لأدوات الدولة الحديثة، حين تدمج بين العسكرة والتكنولوجيا والعنصرية، وتمنح نفسها الحق المطلق في إدارة حياة الناس.. أو إنهائها.

غزة، في هذه اللحظة، ليست فقط ساحة حرب، بل معسكر اعتقال بحجم مدينة، بلا ماء، بلا كهرباء، بلا دواء، بلا مفر.. تدار عبر سياسات التجويع والترويع والعقاب الجماعي، تحت غطاء من مصطلحات حداثية: "منطقة آمنة"، "ممر إنساني"، "عملية استباقية".. غير أن هذا كله ليس جديدا.

فالدولة الحديثة، كما كتب "زيجمونت باومان"، هي التي اخترعت المعسكر، حين قررت أن بعض البشر فائضون عن الحاجة! فمنذ الحرب العالمية الأولى، ظهر مفهوم انعدام الجنسية، ومعه ظهرت معسكرات اللاجئين، لا كحل، بل كوسيلة لعزل غير المرغوب فيهم. ثم جاء النازيون وصنعوا من المعسكر ذروة التقنية الحداثية في إدارة البشر.

وإسرائيل، في هذا السياق، ليست استثناء من الحداثة الغربية، بل هي واحدة من أكثر تجلياتها وضوحا وافتراسا.. هي الوريث الأشرس للمخيل الاستعماري، الذي يرى في الأرض أرضا بلا شعب، وفي السكان الأصليين تهديدا وجوديا يجب إزالته. ولذلك، لا تستطيع هذه الدولة كنتاج للحداثة أن توجد إلا من خلال القتل، ولا أن تستقر إلا عبر الإبادة، ولا أن تتنفس إلا عبر الجدران والأسلاك والحواجز.

وفي غزة، تكثف إسرائيل هذا المنطق، حيث لا تمارس حربا بالمعنى التقليدي، بل تكثف منطق الدولة الحديثة حين تتحرر من كل قيد قانوني أو أخلاقي، وتمنح غطاء دوليا يحصنها من المساءلة. فهي لا تقدم نفسها كدولة عادية لها حدود وحقوق مواطنة، بل ككيان يحاول أن يستمد شرعيته من الدم والإبادة عن طريق التكنولوجيا والسيطرة المطلقة على الأجساد، دون أن تواجه أي تبعات.

فإسرائيل، في جوهرها، ليست انحرافا عن الحداثة الغربية، بل هي أكثر تجلياتها صدقا وافتراسا؛ فهي لم تؤسَس على عقد اجتماعي يربط السلطة بالشعب، بل على عقد دموي، يقوم على ميثولوجيا خلاص ديني مختلطة بأدوات الدولة الحديثة: الطائرات المسيرة، وأنظمة المراقبة البيومترية، وهندسة الحصار، وتقنيات المعسكرات المفتوحة.

هي كيان سياسي لا يعمل ضمن منظومة القانون، بل في فضاء ما فوق القانون أو - بالأحرى- ما بعد القانون، كما وصفه ميشيل فوكو بـ"السياسة الحيوية"، حيث لا تدار الحياة من خلال الحقوق، بل من خلال التحكم الكامل بالجسد، ومن يسمَح له أن يبقى على قيد الحياة.

في هذا السياق، لا تشتق إسرائيل شرعيتها من الشعب أو من مؤسسات تمثيلية، بل من قدرتها على سحق أي مقاومة، وتدمير كل سردية بديلة. وجودها نفسه مشروط بالإبادة المستمرة، والتطهير الرمزي والجسدي للآخر الفلسطيني، الذي يجب أن يمحى لا من الأرض فقط، بل من اللغة، والتاريخ، والذاكرة.

ولذلك فإن إسرائيل ليست استثناء عن مشروع الدولة الحديثة، بل هي ذروته الأقصى، ونموذجه الأكثر تجريدا: دولة لا تعرف نفسها بما تحكمه، بل بمن تقصيه وتفنيه.

ومن هنا، فإن كل اعتراف بهذا الكيان بوصفه "دولة كغيرها من الدول" ليس موقفا بريئا أو محايدا، بل هو تواطؤ ضمني مع هذا المنطق الإبادي، واشتراك -ولو بالصمت- في تحويل الفتك اليومي إلى ممارسة قانونية، وتجريد الآخر من حياته إلى مسألة إدارية.

لذلك، يجب إدراك أن إسرائيل- ككيان استيطاني- لن تتغير؛ فالعنف بالنسبه لها ليس رد فعل، بل هو أيديولوجيا، وهوية، وبنية حكم. لذا، فإن كل محاولة لفهمها خارج هذا الإطار ستنتهي إلى التواطؤ...

ولهذا، رأى "فرانز فانون" أن الاستعمار لا يمكن هزيمته إلا حين توضع السكين على عنقه؛ فالمستعمِر لا يفهم لغة الحقوق، ولا يعترف بالإنسان إلا حين ينتزع اعترافه بالقوة.

من هنا، فإن مقاومة إسرائيل ليست خيارا استراتيجيا، بل ضرورة وجودية لشعوب المنطقة لانتزاع الحق في الوجود. فالشعوب الأصيلة في هذه المنطقة -من فلسطين إلى لبنان، وسوريا، والعراق- إذا أرادت سلاما حقيقيا، فعليها أن تدرك أن لا سلام مع كيان ولد من رحم المجزرة، ويتنفس من رئة الإبادة، ويستمد شرعيته من شلالات الدم.

غزة اليوم ليست معسكرا للجوع فقط، بل هي مرآة تعكس حقيقة عالم مأزوم، فقد كل حس أخلاقي، وارتضى رؤية أن يباد الأطفال في بث مباشر.. ثم يصمت. وما لم تتحطم هذه المعادلة، وتكسَر القاعدة التي تسمح بوجود كيان كهذا بلا عقاب، فإن المعسكر سيتوسع.. حتى يبتلعنا جميعا.
ـــــــــــــــــــــ
بتصرف يسير

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة