
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعل الإيمان به وبكتبه ورسله واليوم الآخر أساس الاستقامة والفلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: أوصيكم ونفسي المخطئة بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال سبحانه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا) [الأحزاب: 70].
أما بعد:
الخطبة الأولى:
فإن من أعظم ما يميز المسلم الحق أنه يؤمن بالغيب إيماناً راسخاً، لا تزعزعه شبهات ولا تضعفه شهوات. والإيمان بالغيب هو الذي يفصل بين أهل الحق وأهل الضلال، وهو سر الثبات في أزمنة الفتن. قال تعالى في وصف المتقين: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) [البقرة:3].
أيها المسلمون: إن الإيمان في اللغة هو التصديق الجازم، وفي الشرع هو قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح. وهو يشمل أصول الدين كلها، وأهمها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وهذه الأركان الستة هي التي يقوم عليها صرح الإسلام.
وإن أعظم ما يميز المؤمن أنه يؤمن بما أخبره الله ورسوله، ولو لم تَرَه عينُه أو يُدركه عقلُه. فالمؤمن يصدق بالغيب الذي أخبر الله به، فيؤمن بالملائكة وإن لم يَرَهم، ويؤمن بالجنة والنار وإن لم يطّلع عليهما، ويؤمن بالبعث والحساب وإن لم يشاهدهما. قال الله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [البقرة:285]. وقال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة:8]. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم شمول الإيمان فقال: «الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» متفق عليه.
أيها الأحبة: إن للإيمان بالغيب ثمرات وفوائد كثيرة يجنيها المؤمن في دنياه وأخراه ومن أبرز ذلك:
1. طمأنينة القلب وسكون النفس: فإن أول ثمرة للإيمان بالغيب أن يسكب الله في قلب عبده الطمأنينة والراحة. فالمؤمن يعلم أن هناك ربًا يراه ويعلم سره ونجواه، فيطمئن عند الشدائد، ويستقر قلبه عند تقلبات الحياة. قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
2. قوة اليقين والثبات عند الفتن: فالمؤمن بالغيب لا تزعزعه رياح الشبهات ولا تسقطه العواصف؛ لأنه متيقن بأن الله ناصره، وبأن الدنيا دار ابتلاء، وبأن الآخرة هي دار القرار. قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم:27].
3. مراقبة الله في السر والعلن: فمن آمن أن الملائكة تكتب أعماله، وأن الله مطّلع عليه، استحيا أن يراه الله على معصية، فاستقام ظاهره وباطنه. وهذا يثمر في حياته ورعًا وخشية، فيكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
4. العمل الصالح الدائم: فالإيمان بالغيب يجعل المؤمن لا يكتفي بالشعارات، بل يتحول إيمانه إلى عمل صالح مستمر. قال الله تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [العصر:1-3]. فالإيمان الحقيقي لا ينفصل عن العمل، بل يثمر صلاةً وصيامًا وزكاةً وبرًّا وخلقًا حسنًا.
5. الصبر على الابتلاء والرضا بالقضاء: من ثمرات الإيمان بالغيب أيضًا أن يرضى العبد بما قدّر الله عليه، فيعلم أن كل ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيرضى بقدَر الله، ويصبر على البلاء، ويحمد الله في السراء والضراء. قال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له».
6. حسن الخلق ومعاملة الناس بالخير: المؤمن بالغيب يعلم أنه سيُسأل يوم القيامة عن كل صغيرة وكبيرة، فيحرص على حسن الخلق، والصدق في القول، والإحسان إلى الناس. قال صلى الله عليه وسلم: «أثقل شيء في الميزان يوم القيامة حسن الخلق».
7. قوة الرجاء في رحمة الله: فالإيمان بالغيب يجعل قلب المؤمن معلقًا برحمة الله، فلا يقنط من عفوه ولا ييأس من روحه، بل يعيش بين الخوف والرجاء، راجيًا ما عند الله من المغفرة والرضوان. قال تعالى: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87].
8. الأمن والسكينة في الدنيا والآخرة: قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]. فالإيمان الصادق يمنح صاحبه الأمن في دنياه من الاضطراب والحيرة، ويمنحه الأمن يوم القيامة من الفزع الأكبر.
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: الإيمان بالغيب ليس فكرة نظرية، بل هو حقيقة عملية تغيّر حياة المسلم كلها، فمن آمن بالملائكة أيقن أنهم يكتبون أعماله، فاجتنب السيئات وأقبل على الطاعات، ومن آمن بالجنة والنار سعى للجنة وهرب من النار، ومن آمن بالقدر خيره وشره رضي بما قسم الله له، ولم يتسخّط على أقداره.
ولذلك كان السلف الصالح –رضوان الله عليهم– أقوى الناس يقينًا، لأنهم ربطوا قلوبهم بالآخرة، فهانت عليهم الدنيا. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما دُعي إلى الإنفاق في سبيل الله قدّم كل ماله، لأنه يؤمن بالغيب ويوقن أن ما عند الله خير وأبقى. وهذا بلال رضي الله عنه تحمّل العذاب في مكة وهو يقول: "أحدٌ أحد"، لأنه كان يرى بنور قلبه ما لا يراه الجلادون من نعيم الجنة ورضوان الله تعالى.
أما اليوم فقد ضعف عند كثير من الناس الإيمان بالغيب، فانشغلوا بالدنيا وملذاتها، وغفلوا عن الآخرة ومصيرها، فصار بعضهم يلهث وراء المال والمنصب، ولو على حساب دينه وأمانته، وبعضهم يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، لأنه نسي أن هناك يومًا آخر فيه حساب وجزاء.
أيها المسلمون: إن علاج هذه الغفلة أن نتذكر دائمًا أننا ماضون إلى الله تعالى، وأن الموت حق، والقبر حق، والبعث والنشور حق. قال تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) [التغابن:7]. فالمؤمن يعيش حياته وهو يستعد لذلك اليوم العظيم.
واعلموا –رحمكم الله– أن قوة الأمة وعزتها لا تكون بكثرة الأموال ولا العَدد والعُدد، وإنما بإيمانها الصادق. قال تعالى: (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) [آل عمران:160]. فإذا ثبت الإيمان في القلوب نزل النصر من عند الله، وإذا ضعف ضاعت الأمة وتفرّق شملها.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ارزقنا الإيمان الصادق الذي يملأ القلوب نورًا، ويظهر في الأعمال صلاحًا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.