الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من دروس الهجرة

من دروس الهجرة

من دروس الهجرة

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي رفع قدر المؤمنين بالإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز القوي المتين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: أوصيكم بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (النساء:131).

أيها المؤمنون: إن من أعظم القيم التي جاء بها الإسلام قيمة العزة، فهي صفة ربنا سبحانه، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون:8).

المؤمن عزيز بدينه، مرفوع الرأس بعقيدته، لا يخضع إلا لله، ولا يذل إلا لجناب العبودية له سبحانه.

وقد قال النبي ﷺ: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين) رواه مسلم.

فالعزة ليست في كثرة مال، ولا في جاه أو سلطان، بل في اتباع الوحي والاعتصام بحبل الله. قال تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (فاطر:10). فمن التمسها عند غير الله أذله، ومن اعتز بالله رفعه سبحانه. وقد قال النبي ﷺ: (من تواضع لله درجة رفعه الله درجة، حتى يجعله في عليين، ومن تكبر على الله درجة، وضعه الله درجة، حتى يجعله في أسفل السافلين) رواه أحمد.

إن لله سنناً لا تتغير ولا تتبدل؛ فالأمم إذا أعرضت عن دينها، وأضاعت عزتها، سلط الله عليها الذل والهوان. قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ} (يونس:27). وقال جلَّ شأنه أيضاً: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (الحج:18). وقال النبي ﷺ: (إذا تبايعتم بِالْعِينَةِ، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلًّا، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود.

فليس ضعف المسلمين اليوم إلا بسبب ضعف التمسك بدينهم، والغفلة عن تاريخهم، والركون إلى دنيا فانية، ونعيمٍ زائل. ولا يُرجى النصر مع ضعف العقيدة، وطمس الهوية، بل لا بد من الرجوع إلى الأصل الذي به عِزُّ المسلمين وهو الإسلام.

ومن دروس الهجرة وبركاتها أن المسلمين اتخذوا منها بداية لتأريخهم، فأرشد الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إلى أن يكون حساب السنين ابتداء من هذا الحدث العظيم، لأنه بداية قيام دولة الإسلام. وصار هذا التاريخ جزءاً من هوية الأمة، يربط عباداتها وأحكامها من صيام وصلاة وحج وزكاة، ومواسم كعاشوراء وعشر ذي الحجة وليالي رمضان، وأحداث جليلة كالمعارك والفتوحات.

معاشر المسلمين: ومن أعظم مواطن العزة في سيرة نبينا ﷺ حادثة الهجرة، تلك اللحظة العظيمة التي ودَّع فيها مكة مهاجراً إلى المدينة ليقيم دولة الإسلام. لم تكن الهجرة فراراً من العدو، ولا هزيمة من معركة، بل كانت انطلاقة جديدة تحمل معاني العزة والثبات.

تأملوا المشهد في الغار حين قال أبو بكر رضي الله عنه: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. فقال له النبي ﷺ مطمئناً: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40). إنها عزة الإيمان التي تملأ القلب طمأنينة، فلا تهزمه جموع الكفار ولا كثرتهم.

أيها المؤمنون: لقد ظل المسلمون قروناً يعتزون بتاريخهم الهجري، حتى جاءت عصور الاستعمار فعمل المحتلون على اقتلاع هذه الهوية، واستبدالها بتقاويم وضعها غيرهم. وهكذا نُزعت من أجيال الأمة صِلتَهم بتاريخهم، حتى صار كثير منهم لا يعرفون متى يبدأ العام الهجري ولا متى ينتهي، ولا يعرفون إلا تقاويم أمم أخرى مرتبطة بأحداث غيرهم.

وهذا لون من الذلة الفكرية والثقافية، أن يُعرِض المسلم عن تاريخه الذي ارتبط بدينه، ويُقبل على تاريخ لا يربطه بعبادة ولا عقيدة. إن من ينسى ماضيَه ويهمل هويته لا يمكن أن يقود المستقبل.

عباد الله: إن إلغاء الأمة لتاريخها واستبداله بتاريخ غيرها صورة من صور الذلة والهوان، كيف ترضى أمة اصطفاها الله لتكون خير أمة أن تتخلى عن هويتها، وتتبنى ما صاغه أعداؤها؟! قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء:141). لكن الواقع يشهد أن الانبهار بالآخر جرَّ كثيراً من المسلمين إلى نسيان تاريخهم وثوابتهم، بل والسخرية منها أحياناً، حتى غرق الإعلام في لهو وغناء، وانشغل الكُتَّاب بالقشور، ونسوا قضايا الأمة الكبرى.

تأملوا مواقف سلفنا الذين نتعلم منهم الاعتزاز بالدين، والثقة بالنفس، فهذا ربعي بن عامر رضي الله عنه، يقف أمام رستم قائد الفرس، فيقول كلمته المشهورة: (ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) كلمات قالها رجل بسيط الثياب، لكنها خرجت من قلب ممتلئ بالعزة، فدوَّنها التاريخ درساً للأمم.

وهكذا لما رجع المسلمون إلى دينهم في عين جالوت، أوقفوا زحف التتار، وارتفعت صيحة الإيمان: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم:47). فالعزة ليست خيالاً يدور في الرأس، ولا شعارات تلوكها الألسنة، بل حقيقة يعيشها المؤمن إذا استقام على أمر الله، واعتز بدينه، وحافظ على هويته.

أقول ما سمعتم...وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.

الخطبة الثانية

عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102).

أيها المؤمنون: العزة التي نبحث عنها ليست كبراً ولا استعلاءً على الخلق، بل هي رفعة بالإيمان، واستعلاء على الباطل والشهوة والذلة. هي شعور العبد أنه عبد لله وحده، فلا يخضع إلا له سبحانه، ولا يرجو النصر إلا منه، ولا يلجأ إلا إليه سبحانه. قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:139).

فلنعتز بديننا، ولنرتبط بتاريخنا الهجري الذي خطه الصحابة بدمائهم، ولنعلِّم أبناءنا معانيه الرفيعة وأحداثه العظيمة، حتى لا ننفصل عن جذورنا. ولنوقن أن النصر والتمكين لن يكون إلا إذا رجعنا إلى ربنا، وصَدَقْنَا في الاعتماد عليه.

اللهم ولِّ علينا خيارنا، واكفِنا شر شرارنا، ووفق ولاة أمورنا لتحكيم كتابك، واتباع سنة نبيك محمد ﷺ.

ألا وصلُّوا على نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

العقيدة

الولاية لله حقيقتها ومقتضياتها

الخطبة الأولى الحمد لله الذي تفرد بالولاية على عباده، وجعلها شرفًا عظيمًا لأهل الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله...المزيد