الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الخوف من الله

الخوف من الله

الخطبة الأولى

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى؛ فهي وصية الله لكم، ولمن قبلكم قال تعالى: (‌وَلَقَدْ ‌وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131]. ويقول الله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ‌حَقَّ ‌تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

أما بعد:

معاشر المسلمين: أن حسن الظن والرجاء بمغفرة الله ومثوبته، ينبغي أن يكون لعبدٍ أخلص النية وأحسن العمل، واجتهد في العبادة، أما العصاة المصرون على الذنوب المستهترون بفعلها، والمقيمون على الفواحش، فأي عملٍ صالحٍ يرجونه ويحسنون الظن به، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

عباد الله: إن كثيراً من أبنائنا، وكثيراً من شبابنا، وبعض المسلمين هداهم الله، ليتساهلون بالذنوب والمعاصي إلى حد الإصرار المقيم والعمل الدائم على الفواحش والسيئات، دون تفكيرٍ أن يتوبوا، أو أن يقلعوا أو أن ينيبوا إلى الله منها، ولو كلمت بعضهم وهو مصرٌ مقيمٌ على معصية الله، لقال لك: إني أحسن الظن بالله، ووالله لو أحسن الظن لأحسن العمل.

إن المقيم على الذنب والمصر على المعصية، لفي أشد الحاجة إلى ما يخوفه ويزجره عن التمادي، ويردعه عن الوقوع في الغفلة والشهوات المحرمة؛ لذلك عليه أن يسعى في تحقيق ما يزيد تعظيم الله سبحانه في قلبه وخوفه منه.

فإن من كملت معرفته بربه، وظهر خوفه من الله، وفاض أثر ذلك على قلبه، ثم انعكس على جوارحه بكفها عن المعاصي وإلزامها بالطاعات، تكفيراً لما سلف، واستعداداً لما سيأتي؛ فقد فاز وأنجح، وبلغ غاية المقصود، (وَلِمَنْ ‌خَافَ ‌مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46]، (وَأَمَّا مَنْ ‌خَافَ ‌مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40-41]، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «‌من ‌خاف ‌أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة». رواه الترمذي.

واعلموا عباد الله: أن البكاء وحده ليس دليلاً على الخوف من الله، لكن حقيقة الخوف ترك العبد ما حرم ربه مع قدرته عليه، وإذا بلغ الخوف بالمؤمن هذه الدرجة انقمعت شهوته، وتكدرت لذته، فتصير المعصية المحبوبة إلى النفس مكروهةً يبغضها القلب، وتكف عنها الجوارح، وكلما تمكن الخوف من الله في قلب المؤمن زادت مراقبة العبد ومحاسبته لنفسه.

عباد الله: إن كثيراً من المسلمين لا يخافون من الله حق خوفه، ولا يخشونه حق خشيته، أيغرهم إمهاله لهم، أم يظنون أن الله غافلٌ عما يعملون سبحانه جل شأنه؟ وبعضهم إذا وقع في معصية ولم تصبه عقوبتها، ولم ير أثرها في الحال، يظن أن المعصية بعد ذلك لا تضره، وهو بفعله هذا على حد قول القائل:

إذا لم يغبر حائط في وقوعه *** فليس له بعد الوقوع غبار

وقد نسي ذلك المسكين أن بعض الذنوب لا يرى العبد أثرها وشؤمها إلا بعد عشر سنين، أو عشرين سنة، أو أربعين سنة.

ترى بعضاً منهم لا يخشى ولا يخاف العاقبة السيئة وما اقترف من الخطيئة، والبعض يتقلب في لهوه وغفلته كأنما ضمنت له الجنة وقدمت بين يديه الرحمة والمغفرة، فأين هو من أخبار السلف الصالحين من قبله ممن بلغوا أعلى مراتب الخوف والخشية من ربهم، مع طاعتهم وعبادتهم له؛ وما ذاك إلا لكمال معرفتهم بخالقهم.

إن الخوف من الله لا يكون من أصحاب الذنوب والخطايا فقط، بل لابد أن يكون حتى من الصالحين، تأملوا كتاب الله، وستعلمون كيف كان الملائكة المقربون الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، كيف كانوا يخافون من الله، يقول الله جل وعلا في وصفهم: (‌يَخَافُونَ ‌رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [النحل: 50].
وكذلك الأنبياء عليهم السلام، (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا ‌رَغَبًا ‌وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].

أما نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الذي قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكان من أخشى الناس لله وأتقاهم له سبحانه؛ تقول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى لهواته، إنما كان يتبسم وكان إذا رأى غيماً وريحاً عُرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرفت الكراهة في وجهك، فقال: (يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارضٌ ممطرنا) أخرجاه في الصحيحين.

وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (.. والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم ‌إلى ‌الصعدات تجأرون إلى الله) رواه الترمذي وابن ماجه.

أما الصحابة رضوان الله عليهم وفيهم من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهم من أثنى الله عليهم في كتابه، فخوفهم من جلال ربهم معلوم ومشهور وظاهر، فقد كان أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه يقول: "يا ليتني كنت شجرةً تعضد ثم تؤكل" وكان رضي الله عنه يقول: "وددت أن أقدم على الله يوم القيامة لا لي ولا عليَّ".

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عدني رسول الله من المنافقين؟" وكان عمر رضي الله عنه يسمع الآية فيمرض فيعاد أياماً، وقرأ ذاتٍ يومٍ في صلاة الفجر: (فَإِذَا ‌نُقِرَ ‌فِي النَّاقُورِ) [المدثر: 8] فبكى ونشج نشيجاً عجيباً، فعاده الصحابة أياماً في بيته من شدة ما أصابه من خشية الله وخوفه، وكان عمر رضي الله عنه في وجهه خطان أسودان من البكاء.

وقال أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه: "وددت أني كنت كبشاً فذبحني أهلي فأكلوا لحمي وحسوا مرقي" وقال عمران بن حصين: "يا ليتني كنت رماداً تذروه الرياح"، ويقول علي بن أبي طالب: "والله لقد رأيت أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزة، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، إذا طال القيام سجدوا، وإذا طال السجود قاموا، فإذا أصبحوا ذكروا الله عز وجل، مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين".

أما التابعون لهم بإحسان والسلف الصالح فلهم من خشية الله وخوف عقابه ما ترجف لذكره القلوب، وتهتز له الأفئدة.

فهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته، وبكى ليلةً فأبكى أهل الدار معه، فلما تفلت العبرة عنهم، قالت زوجه فاطمة: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين! مم بكيت؟ فقال عمر: بكيت من صرف القوم من بين يدي الله تعالى: (‌فَرِيقٌ ‌فِي ‌الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى: 7] ثم صرخ فغشي عليه.

وهذا الحسن البصري رضي الله عنه بكى بكاءً شديداً وسألوه، فتلا عليهم قول الله جل وعلا: (‌وَبَدَا ‌لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الجاثية: 33]، (‌وَبَدَا ‌لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47].

فهذا خوف الملائكة، وذلك خوف الأنبياء، وهذا خوف الصحابة والتابعين، ومنهم المعصوم ومنهم من شُهد له بالجنة، فنحن أجدر وأولى بالخوف منهم، فاخشوا الله حق خشيته، وتذكروا سطوته وأليم عقابه، واصحبوا -يا عباد الله- من يخوفونكم حتى تأمنوا، ولا تصحبوا من يؤمنونكم حتى تخافوا.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبينا محمد المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.

عباد الله عليكم بتقوى الجليل، والعمل بالتنزيل، تنالوا الأجر الجزيل في دار الخلود.

معاشر المسلمين: إن منزلة الخوف من الله جل وعلا قد تقهقرت في النفوس وتراجعت في الأفئدة إلى حدٍ عجيب، وعجيب جداً، ترى كثيراً من الناس يدفنون موتاهم بأيديهم، ثم يخرجون من أبواب المقابر ضاحكين، وترى كثيراً من الناس يرون ما حل بالخلائق حولهم، وتراهم في أكلهم وشربهم لاهين غافلين، أفأمنوا مكر الله؟ أفأمنوا عقوبة الله؟ أفأمنوا سخط الله؟

إن أمةً من الأمم التي سلفت قد عُذبت بذنبٍ واحد من الذنوب، فكيف بأناس قد استجمعوا ذنوباً عظيمة، استجمعوا أكل الربا والسكوت على المنكرات، وبيع آلات اللهو والطرب، والتجارة بإفساد العقول والأفئدة، والسكوت عن كلمة الحق، وأمور كثيرة.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، بقول ربنا سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ ‌يُصَلُّونَ ‌عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خطب الجمعة

ومضى شهر رمضان

الخطبة الأولى الحمد لله، حمداً كثيراً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، ونشهد أن نبينا...المزيد