الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اجعل همك الدار الآخرة

اجعل همك الدار الآخرة

اجعل همك الدار الآخرة

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ‌حَقَّ ‌تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ‌وَلْتَنْظُرْ ‌نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) ‌يُصْلِحْ ‌لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

معاشر المؤمنين: لو سألنا أنفسنا سؤالاً: ما الهم الذي نحمله؟ وما الأمر الذي يستحوذ على تفكيرنا واهتمامنا منذ أن نصبح حتى نمسي؟

لا شك أن الجواب سيختلف من شخص إلى آخر حسب نوع الهموم والمطالب والأمنيات التي يريدها ويتمناها.

لكن هناك أمر لا بد لكل مسلم أن يجعله أكبر همه، وغاية مطلوبه، وأين يكون سعيه الدائم نحو تحقيق هذا الأمر بالدرجة الأولى، وما سوى ذلك من الحاجات والأمنيات تكون تحت هذا المطلوب وبدرجة ثانوية، بل لا بد أن تكون عائدة لهذا المطلوب الأعظم، وخادمة له .

وقد جاء بيان هذا المطلوب في قول الله تعالى: (‌مَنْ ‌كَانَ ‌يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ‌وَمَنْ ‌كَانَ ‌يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى: 20]، (‌مَنْ ‌كَانَ ‌يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء: 18-19].

وكذلك جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ‌كانت ‌الآخرة ‌همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همه، جعل الله الفقر بين عينيه، وفرق عليه شمله ولم يأته منها إلا ما قدر له) رواه الترمذي.

من هنا يتبين لنا بأن الهم الأول للمؤمن هو هم الآخرة والسعي والعمل لها، وكل هموم الدنيا بعد ذلك لا بد أن تكون خادمة لهم الآخرة.

معاشر المؤمنين: هذا الحديث العظيم، فيه دليل على أن من اهتم واشتغل بأمر الآخرة فإن الله جل وعلا لن يضيعه في أمور دنياه، قال سبحانه: (وَمَا كَانَ ‌رَبُّكَ ‌نَسِيًّا) [مريم: 64]، ويقول تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ ‌مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6]، ويقول جل وعلا: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ‌لَا ‌تَحْمِلُ ‌رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت: 60].

هل رأيتم حشرة معها سلة تجمع في سلتها غذاءها؟ هل رأيتم يرقة معها خزينة تحمل في خزينتها طعامها؟ (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ‌لَا ‌تَحْمِلُ ‌رِزْقَهَا) من الذي يرزقها؟ من الذي يعطيها؟ من الذي يسقيها؟ من الذي يحميها؟ من الذي من السقم يعافيها؟ (اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت: 60].

دخل رجل يقال له بهلول -من الفقراء وممن يظن به الجنون- على أحد الخلفاء فقام يحدثه ويعظه؛ فتأثر ذلك الخليفة، وأراد أن يمنحه من المال شيئاً، فقال: خذ، فقال بهلول: لا حاجة لي به، فقال الخليفة: يا بهلول! من الذي يعطيك طعاماً وشراباً؟ ومن أين تأتي بالمال؟ فالتفت إلى الخليفة قائلاً: أتظن أن الذي أعطاك الملك والخلافة ينساني؟

وهنا سؤال يطرح ما هي مظاهر الاهتمام بالآخرة؟ للاهتمام بالآخرة مظاهر عدة:

منها مظاهر قلبية وسلوكية: كتعلق القلب بالآخرة، والاستعداد للقاء الله، وتجنب التعلق الشديد بالدنيا ومادياتها.

وبالاستعداد الدائم باغتنام كل لحظة في الحياة لفعل ما يرضي الله، وعدم الانشغال إلا بالأمور المهمة، التي تعود على المسلم بالنفع في الدين والدنيا مصادقاً للحديث النبوي (احرص على ما ينفعك) رواه مسلم.

وبيقظة القلب والتذكير الدائم بالدار اللآخرة وأحوالها وأهوالها.

ومنها مظاهر عملية: كالالتزام بالأوامر والنواهي: وتشمل التركيز على ما يرضي الله من خلال أداء العبادات، وتجنب ما يغضبه من المعاصي، والاستعداد للقاء الله بالعمل الصالح، وباجتناب ما حرم الله في العمل والإنفاق، مثل بيع المحرمات أو العمل في وظائف محرمة، والالتزام بالضوابط الشرعية في البيع.

وبالموازنة بين الدنيا والآخرة في إدارة شؤون الحياة؛ ويتجسد ذلك في البعد عن التباهي بالدنيا؛ كعدم المباهاة بالتجارة أو الغنى، وابتغاء وجه الله في كسب الرزق ليكون عونًا على طاعته لا سبباً للمعصية.

وبالإحسان في العمل: كالقيام بالعمل الدنيوي بإخلاص ونية حسنة، كأن يقصد به إعفاف النفس عن الناس، أو الإنفاق على الأهل؛ فعمل الدنيا لا ينافي عمل الآخرة إذا حسنت النية.

وإخراج حق المال: بإعطاء الزكاة والصدقات والنفقة الواجبة على الأهل، كنوع من الشكر لله على نعمه.

أيها المسلمون، إن للاهتمام بالآخرة دلائل، من أهمها وأبرز علاماتها التي يعرف بها من كان للآخرة في قلبه اهتمام وتعظيم: أن ترى المهتم بالآخرة متأثراً بمناظر الأموات، والجنائز والقبور، ومكثراً من ذكر الموت كما في الحديث عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هادم اللذات يعني الموت) رواه الترمذي.

فمن رأيته يهتم لذلك ويطرق رأسه يفكر ويتدبر، لينظر ما قدم وأخر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ‌وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]؛ فاعلم أن في قلبه اهتماماً بالآخرة، وما أكثر الذين يرون الحنوط والأكفان، وما خطر ببالهم أنهم سيلفون بها! وما أكثر الذين يرون النعش وما خطر ببالهم أنهم سيحملون عليه! وما أكثر الذين يرون المقابر وما خطر ببالهم أنهم سيدفنون فيها! ما أكثر الذين يرون اللحود وما خطر ببالهم أنهم سيودعون في ظلمتها! وما أكثر الذين يرون المرضى ينازعون الحياة والفراق وما خطر ببالهم أن أحدهم سوف يمر بمثل ما رأى!

معاشر المؤمنين: ومن دلائل الاهتمام والاشتغال بالآخرة أن يكون عمله دائماً للآخرة؛ فإذا رأى في الطريق شوكة أو أذى أو قذى أماطه، وقال: لعل بهذه الحسنة ترجح موازين الحسنات على السيئات، وما يدريك بعد رحمة الله أن تكون تلك الحسنة فاصلة في حال العبد ومصيره .

وإذا أقبل على قوم هش وبش وابتسم إليهم يريد بذلك صدقة تزحزحه عن النار، وإذا رأى محتاجاً أغاثه يريد بذلك حسنة ينجو بها من النار، وإذا دعي إلى بذل بذله وهو يريد أن ينجو بعد رحمة الله من النار، فاهتمامه بالآخرة يجعله يقوم بكل حسنة ويدخرها، ولا يتهاون بأي معصية ولا يقوم بها.

خلِّ الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض *** الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى

أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبينا محمد المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، عباد الله عليكم بتقوى الله سبحانه فهي خير نجاة لكم من عذابه، وخير موصل إلى جنته.

عباد الله: من دلائل الاهتمام والاشتغال بالآخرة: أن تحاسب نفسك أولاً بأول؛ يقول عز وجل: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا ‌أُقْسِمُ ‌بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة: 1-2]، قال الحسن البصري: هي نفس المؤمن، تلومه إن قصر في حسنة عاتبها على التقصير، وإن فرط في معصية حاسبها على التفريط.

صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، بقول ربنا سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌صَلُّوا ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

العقيدة

الولاية لله حقيقتها ومقتضياتها

الخطبة الأولى الحمد لله الذي تفرد بالولاية على عباده، وجعلها شرفًا عظيمًا لأهل الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله...المزيد