عندما تشتعل الحروب، تتجه الأنظار عادة إلى الخسائر المادية والجيوسياسية، وتنشغل العواصم الكبرى بموازين القوى وتأمين المصالح الإستراتيجية. لكن في خضم هذا الجدل، يغيب الثمن البشري الأعمق والأطول أمدا: ذاكرة الصدمة التي تُحفر في وعي أجيال من الأطفال.
وفي قطاع غزة، لم يعد الحديث مقتصرا على حصيلة الضحايا اليومية فحسب، بل عن جيل كامل يُعاد تشكيله نفسيا ومعرفيا داخل فرنٍ من العنف والفقد. هذا الثمن يتجاوز حدود القطاع الجغرافية، ويضع المجتمع الدولي أمام اختبار أخلاقي وقانوني حاسم.
غزة: بيئة الصدمة المستمرة
يتميز الوضع في غزة بأنه ليس صراعا عابرا، بل صدمة مزمنة ومتكررة؛ فبدلا من التعافي من جولة عنف، يجد الأطفال أنفسهم أمام جولة جديدة أشد قسوة، ما يحول دون بناء آليات دفاع نفسية فعالة.
لقد أصبح القصف والنزوح والفقد جزءا من الروتين اليومي، ليشكل ما يُعرف بـ"الاضطراب الكربي التالي للصدمة" (PTSD) على مستوى مجتمعي كامل.
وتضاعف الظروف المعيشية الكارثية من حدة الأزمة النفسية؛ فالأطفال يعيشون في بيئة تعاني نقص الأمن الغذائي، وانهيار البنية التحتية، وضعف النظام الصحي، بما يجعل الحصول على الرعاية النفسية اللازمة لمعالجة الصدمة ترفا بعيد المنال.
الفقد هنا متعدد الأوجه: فقدان الأهل، وفقدان المنزل، وفقدان الشعور بالأمان، وهو الركيزة الأساسية لنمو الطفل السليم. وهكذا تتكون أجيال تتسم بارتفاع مستويات القلق والعدوانية والعزلة والكوابيس المتكررة، بما ينعكس حتما على قدراتهم التعليمية ومستقبل مشاركتهم في المجتمع.
ثمن النمو: التأثير على بنية الوعي
أخطر ما يخلفه العنف الممنهج والمستمر هو تأثيره على تطور الدماغ والوعي؛ فسنوات الطفولة تشهد بناء الوصلات العصبية التي تحدد كيفية معالجة الفرد للمعلومات وتنظيمه للعواطف.
أما التعرض المستمر للتهديد فيُبقي النظام العصبي في حالة نشاط دائم لآليات "القتال أو الهروب"، ما قد يؤدي إلى تغيرات هيكلية ووظيفية في أدمغة الأطفال.
ويجد الأطفال صعوبة في التمييز بين الخطر الفعلي والأمان النسبي، فيعيشون في حالة تأهب دائم تُعرف بـ"السمية النفسية للصدمة". وهذه ليست مجرد أعراض نفسية عابرة، بل هي مسار تطور معرفي وعاطفي يتشكل، قد يقود إلى أمراض واضطرابات نفسية في مرحلة البلوغ. وعليه، فإن الثمن لا يتمثل فقط في ضياع الطفولة، بل في تقويض قدرة جيل كامل على الإسهام الإيجابي في بناء مستقبل سلمي.
الميزان الدولي: فشل الحماية والمساءلة
ينهار الميزان الدولي -المتمثل في الأمم المتحدة والمؤسسات الحقوقية- تحت وطأة الثمن البشري في غزة. فبموجب القانون الدولي، يتمتع الأطفال بحماية خاصة وفق اتفاقية حقوق الطفل، وبموجب اتفاقيات جنيف التي تُلزم بحماية المدنيين وتوفير الرعاية الأساسية لهم.
لكن الواقع يكشف فشلا ذريعا في آليات الحماية والمساءلة؛ فعلى الرغم من التقارير الأممية الموثقة حول استهداف المدارس والمستشفيات والأحياء السكنية، تظل المساءلة بطيئة ومُكبلة بالفيتو السياسي والدعم غير المشروط لبعض الأطراف.
هذا الفشل يمنح مرتكبي الجرائم شعورا بالإفلات من العقاب، ويزرع في وعي أطفال غزة أن العالم يتخلى عنهم، وأن حياتهم لا تحمل القيمة ذاتها لحياة أطفال آخرين في العالم.
وليس هذا الموقف الدولي مجرد إخفاق قانوني، بل هو تآكل للمصداقية الأخلاقية للنظام العالمي؛ فالصدمة التي يعيشها أطفال غزة أصبحت شهادة حية على ازدواجية المعايير، ما يعزز خطاب التشكيك في المؤسسات الدولية، ويقوض الثقة بفكرة العدالة العالمية.
الدور العربي: مسؤولية الاحتواء والمستقبل
تقع على عاتق الدول العربية والمؤسسات الإقليمية مسؤولية مضاعفة تجاه أطفال غزة. إن التعامل مع الأزمة لا يمكن أن يقتصر على المساعدات الإنسانية العاجلة، بل يجب أن يمتد إلى برامج وطنية وإقليمية مستدامة لمعالجة الصدمة الجماعية. ويتطلب ذلك:
الاحتواء والرعاية النفسية المتخصصة: توفير فرق دعم نفسي واجتماعي مدرَبة على التعامل مع صدمات النزاع، وإنشاء مراكز متخصصة في الدول المجاورة لاستقبال الأطفال الذين يحتاجون بيئة أكثر استقرارا للتعافي.
الاستثمار في التعليم: إعادة بناء المنظومة التعليمية، وتوفير مساحات آمنة داخل المدارس تكون بمثابة "ملاذات نفسية" تُعيد للأطفال إحساسهم بالروتين والحياة الطبيعية.
الدفاع القانوني: تفعيل الدبلوماسية القانونية العربية في المحافل الدولية، والمطالبة بآليات مساءلة حقيقية تتجاوز الإدانات اللفظية، بما يعزز مبدأ عدم الإفلات من العقاب ويمنح الأطفال شعورا بالعدالة اللازمة للشفاء النفسي.
إن فشل العرب في احتواء هذه الصدمة سيقود إلى تبعات أمنية وإنسانية تمتد لعقود، حيث يتحول هذا الجيل إلى وقود لمزيد من العنف وعدم الاستقرار داخل القطاع وفي محيطه.
استحقاق الاعتراف بالثمن الحقيقي
إن الثمن البشري للحرب في غزة، والمتمثل في ذاكرة الصدمة لدى أجيال من الأطفال، هو الكلفة العليا التي يجب أن يضعها الميزان الدولي في اعتباره. فهو ليس مجرد رقم يُضاف إلى قائمة الضحايا، بل هو دين ثقيل على الإنسانية.
وأي حل سياسي أو اقتصادي مستقبلي لا يضع الصحة النفسية والتعافي الشامل لأطفال غزة في صلب أولوياته سيكون حلا قاصرا محكوما عليه بالفشل؛ فالأطفال هم المستقبل، وتجاهل جراحهم النفسية يعني الإذعان لإعادة إنتاج جيل مثقل بالعجز عن بناء سلام دائم.
العالم مطالب اليوم بالانتقال من الإدانة إلى الفعل، ومن العناوين الإخبارية إلى صميم وجدان الطفل الفلسطيني المكلوم.
المقالات
الأكثر مشاهدة اليوم

