عاش العلامة جمال الدين القاسمي تسعة وأربعين عاماً بينما بلغت مؤلفاته وأعماله أكثر من مائة كتاب ورسالة ، فيالها من حياة مليئة بالعمل والعلم والإصلاح والتأليف والتصنيف!
اسمه و نسبه :
هو العلامة الشيخ أبو الفرج محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن اسماعيل بن أبي بكر ، المعروف بالقاسمي ، نسبة إلى جده.
نشأته
ولد ضحوة يوم الإثنين لثمان خلت من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث و ثمانين و مائتين و ألف في دمشق.
نشأ في بيت علم وفضل، فوالده كان فقيهاً ، عالماً ، أديباً ، أفاد منه الشيء الكثير وأخذ العلوم عن كثير من المشايخ فقد قرأ القرآن أولاً على الشيخ عبد الرحمن المصري ثم الكتابة تجويد الخط على الشيخ محمود القوصي.
- انتقل إلى مكتب في المدرسة الظاهرية حيث تعلم التوحيد و علوم اللغة على شيخه الشيخ رشيد قزيها المعروف بابن سنان.
ثم جوَّد القرآن على شيخ قراء الشام الشيخ أحمد الحلواني.
و قرأ على الشيخ سليم العطار شرح شذورالذهب ، وابن عقيل، وجمع الجوامع ، وتفسير البيضاوي ، وسمع منه دروساً من صحيح البخاري ، والموطأ ، ومصابيح السنة ، وأجازه شيخه إجازة عامة بجميع مروياته سنة 1301 هـ ،ولما يبلغ القاسمي حينها الثامنة عشرة من عمره .
ومن شيوخه الشيخ بكري العطار قرأ عليه كثيراً من الكتب في علوم متنوعة وأجازه هذا الشيخ أيضاً سنة 1302 هـ
ومن شيوخه الشيخ محمد الخان و الشيخ حسن جبينه الشهير بالدسوقي وغيرهم من الشيوخ
وكان جميع أساتذته من المعجبين بذكائه ونباهته ، ويتوقعون له مستقبلاً مشرقاً .
محنته
دعا الشيخ القاسمي إلى العلم ، ونبذ التعصب والتقليد ، وتصفية العقيدة مما علق بها من أفكار
وفلسفات واعتقادات دخيلة ، وإرجاع مجد الإسلام ، ورفع شأنه ، وجعله الحكم على شئون الحياة كلها.
كما دعا إلى نبذ التعصب والجمود ، وفتح باب الاجتهاد لمن ملك القدرة على ذلك ، وكثيراً ما كان يستشهد بأقوال الأئمة الأربعة للتدليل على أفكاره ، فكان يقول: "إن من يطلع على كتب هؤلاء الأربعة رحمهم الله يرفض التقليد ، لأنهم أمروا تلامذتهم بالاجتهاد ، وأن لا يجعلوا كلامهم حجة ، فكانت النتيجة أن اجتمعت عليه الجموع و لفقوا له تهمة خطيرة يستحق عليها السجن والتعذيب؟!
إنها تهمة الاجتهاد، وتأسيس مذهب جديد في الدين سموه (المذهب الجمالي) وشكلوا لذلك محكمة خاصة مثل أمامها مع لفيف من إخوانه العلماء ، كان ذلك سنة 1313ه وله من العمر ثلاثون عاماً ، ثم خلوا سبيله ثم كانت هذه المحنة سبباً في رفع قدره ومكانته وشهرته.
يقول في كتابه الاستئناس [ص 44]: "وإن الحق ليس منحصراً في قول ، ولا مذهب ، وقد أنعم الله على الأمة بكثرة مجتهديها).
وفى كتاب إرشاد الخلق [ص 4]:يقول: "وإن مراد الإصلاح العلمي بالاجتهاد ليس القيام بمذهب خاص والدعوة له على انفراد ، وإنما المراد إنهاض رواد العلم ، لتعرف المسائل بأدلتها".
ونظم من شعره مايرد به على بعض الجاحدين الذين اتهموه ووشوا به إلى الوالي :
زعم الناس بأن مذهبي يدعى الجمالي .. ... .. وإليه حينما أفتي الورى أعزو مقالي
لا وعمر الحــق إني سلفي الانتحال.. ... .. مذهبي ما في كتاب الله ربى المتعالي
ثم ما صح من الأخبـار لا قيل وقال.. ... .. أقتفي الحق ولا أرضى بآراء الرجال
وأرى التقليد جهلاً وعمى في كل حال
وقال في هذا المعنى أيضاً :
أقول كما قال الأئمــة قبلنا.. ... .. صحيح حديث المصطفى هو مذهبي
أألبس ثوب القيل والقال بالياً.. ... .. و لا أتحلــى بالرداء المذهــب
من صفاته
لقد اتصف رحمه الله بصفات العلماء الحميدة، فكان سليم القلب ، نزيه النفس واللسان ، ناسكاً ، حليماً وفياً لإخوانه، جواداً سخياً على قلة ذات يده ، يأنس به جليسه ولا يمل حديثه ، حريصاً على الإفادة من أوقاته ولو كانت قصيرة ، فقد جمع مفكرة جميلة سماها "السوانح" حوت من الفوائد واللطائف الشيء الكثير، وكان يربي تلاميذه على حب الاعتماد على النفس، وعدم الكسب بالدين، والركون إلى الطغاة والظالمين ومسايرتهم على ضلالهم ، رغبة في عَرَضٍ من أعراض الدنيا ، ويستشهد على ذلك بابن تيمية ، فإنه عَرَضَ عليه الحاكم منصب قاضي عسكر براتب مغرٍ فأعرض عنها مخافة أن يكون عبداً وأسيراً لها.
ومن صفاته المشرقة عفة اللسان والقلم،وسعة الصدر،ورحابته، وبشاشة الوجه وطلاقته ، فقد كتب ولده الأستاذ ظافر القاسمي عن هذا الجانب فيقول: "عرف عن القاسمي أنه كان عف اللسان والقلم ، لم يتعرض بالأذى لأحدٍ من خصومه ، سواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة ، أو في مجالسه وندواته ، وكانت له طريقته في مناقشة خصومه، لم يعرف أهدأ منها، ولا أجمل من صبره، وكثيراً ما قصده بعض المتقحمين في داره، لا مستفيداً، ولا مستوضحاً، ولا مناقشاً ، بل محرجاً ، فكان يستقبلهم بصدره الواسع ، وعلمه العميق ، فلا يخرج المقتحم من داره إلا وقد أفحم وامتلأ إعجاباً وتقديراً . "
و كان رحمه الله إماماً وخطيباً في دمشق ، وكان يلقي عدة دروس في اليوم الواحد ، للعامة والخاصة ، ويشارك في الحياة الاجتماعية ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقوم بواجبه في الدعوة والإصلاح ، والنصح والتذكير ، والنقاش والحوار ، ومواجهة البدع والخرافات ، والانحرافات والضلالات. وكان يلقبه محمد رشيد رضا بعلامة الشام.
مؤلفاته
وعن آثاره العلمية يقول ولده الأستاذ ظافر القاسمي في مقدمة كتاب قواعد التحديث عند الترجمة لأبيه: "أما كتبه التي ألفها فقد قاربت المئة ، وأقدم ما عثرت عليه من مؤلفاته مجموعة سماها (السفينة) يرجع تاريخها إلى عام (1299هـ) ضم فيها طرائف من مطالعاته في الأدب، والأخلاق، و التاريخ، والشعر، و غير ذلك، وله من العمر ستة عشر عاماً، ومضى يكتب ويكتب إلى أن عجب الناس من بعده كيف اتسع وقته- ولم يعش إلا تسعة وأربعين عاماً -لهذا الإنتاج الضخم ، فضلاً عن تحمل مسئولية الرأي ، وترجيح الأقوال ومناقشتها ، والرجوع إلى المصادر ، وفضلاً عن أعبائه العائلية ، فلقد كان له زوج وسبعة أولاد،وفضلاً عن إمامته للناس في الأوقات الخمسة دون انقطاع،ودروسه العامة والخاصة، وتفقده للرحم ، ورحلاته ، وزياراته لأصدقائه ، وغير ذلك من المشاغل .
وقد ذكر الدكتور نزار أباظة في كتابه عن القاسمي 113 عنواناً من مؤلفات القاسمي رحمه الله ، مابين مطبوع ومخطوط و ما بين كتاب كبير يشتمل على مجلدات كثيرة ورسائل صغيرة قليلة الصفحات .
من أشهر مؤلفاته رحمه الله
محاسن التأويل وهو تفسير للقرآن الكريم ، دلائل التوحيد ، إصلاح المساجد من البدع والعوائد ، قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث ، شذرة من السيرة النبوية ، رسالة الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس ، كتاب المسح على الجوربين ، تعطير المشام في مآثر دمشق الشام ، حياة البخاري ، شمس الجمال على منتخب كنز العمال ، ميزان الجرح والتعديل ، موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين ،جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب .
من بليغ كلامه
- الحق يصرع إذا عُمِدَ إلى إظهاره بالسباب والشتائم .
- أحكام الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها ، وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها ، وحكم الحق هو الثابت لذاته ، فلا يغلب أنصاره ما داموا معتصمين به .
- التبذير في أشرف الأغراض قصد واعتدال .
-التقليد جذام فشا بين الناس ، و أخذ يفتك فيهم فتكاً ذريعاً ، بل هو مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولي ، يوقع الإنسان في الخمول والكسل .
- الذكاء كالشرارة الكامنة في الزناد ، لا تظهر إلا بالقدح ، فإذا لم تحتك الأفكار بالعلوم مات ذلك النشاط والذكاء في مكامنه وانزوى في زوايا الصدور .
- المكسال شيخ في شبابه ، لأن دقيقة البطالة أطول من ساعة العمل .
- عدم تقدم الكثيرين هو من عدم محاولتهم التقدم .
- إن كتاباً يطبع خير من ألف داعية وخطيب ، لأن الكتاب يقرؤه الموافق والمخالف .
وفاته
وكانت وفاته مساء السبت 23 جمادى الأولى سنة 1332 هـ ، الموافق 18/04/1914م.
ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق.