نهى المولى عز وجل عن السخرية بأنواعهاالمختلفة فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ... ) الآية الحجرات 11 قال الضحاك: نزلت فى وفد بنى تميم كانوا يستهزئون بفقراء الصحابة مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبى حذيفة وغيرهم لما رأوا من رثاثة حالهم فنزلت في الذين آمنوا منهم ". وقيل: نزلت في عكرمة بن أبى جهل حين قدم المدينة مسلما،ً وكان المسلمون إذا رأوه قالوا : ابن فرعون هذه الأمة فشكا ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت , وقيل نزلت فى ثابت لما عير رجلاً بأم له فى الجاهلية فاستحيا الرجل فنزلت .
قال القرطبي في تفسيرها: يقول تعالى ذكره :يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين عسى أن يكونوا خيراً منهم أى المهزوء منهم خير من الهازئين ، ولا نساء من نساء أي: ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات عسى المهزوء منهن أن يكن خيراً من الهازئات ".
وقال: إن الله عمَّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميعَ معاني السخرية فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقر ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك. وقال القرطبي وبالجملة فينبغي ألا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينيه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة فى بدنه أو غير لبيق فى محادثته فلعله أخلص ضميراً وأنقى قلباً ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهزاء بمن عظمه الله . ولقد بلغ بالسلف إفراط تَوَقِّيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذى صنع , وعن عبد الله بن مسعود البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا . ا هـ
وفى تفسير قوله تعالى: ( فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري ) [المؤمنون 110 ] قال القرطبي " يستفاد من هذا التحذيرُ من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين ، والاحتقار لهم ، والازدراء عليهم ، والاشتغال بهم فيما لا يعنى ، وأن ذلك مُبعِدٌ من الله عز وجل .
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية أنها كذا وكذا ـ تعني قصيرة ـ فقال : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " قالت : وحكيت له إنساناً فقال ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا ".[ رواه أبو داود والترمذى باسناد صحيح] . ولما سب أبو ذر رضي الله عنه رجلا فعيَّره بأمه قال له النبى صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية " [رواه البخاري].
وعن أم هانىء عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى : " وتأتون فى ناديكم المنكر " [العنكبوت 29] قال: كانوا يخذفون( يحقرونهم وينبذونهم ) أهل الأرض ويسخرون منهم " [رواه أحمد والترمذى] .
وكان مشركوا مكة: أبو جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين فنزلت الآيات: ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ... ) الاية [المطففين 29 ] وقيل: جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه فى نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه فنزلت هذه الآية قبل أن يصل علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
التهكم والتعيير نوع من السخرية
والتهكم نوع من السخرية وكذلك التعيير بالفقر أو الذنب أو العلة وما شابه ذلك ، ويدخل فى السخرية أيضاً التنابز بالألقاب , قال القرطبى رحمه الله تعالى : التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة ، وعمَّ الله بنهييه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، وغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها.
ولما كانت آية السخرية ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم .. ) [الحجرات 11 ] - فيما يقوله أنس وابن زيد- في بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم عَيَّرن صفية بالقصر، وقيل: نزلت في عائشة رضي الله عنها أشارت بيدها إلى صفية ـ قائلة ـ: يا نبي الله إنها لقصيرة ، وقال عكرمة وابن عباس: إن صفية بنت حيي قالت: " يا رسول الله إن النساء يعيرننى ويقلن لى يا يهودية.." الحديث كل ذلك يدل على أن التنابز بالألقاب إنما هو داخل فى مفهوم السخرية ، ومن ثم يكون ذكر اللمز والتنابز بعد ذكر السخرية من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماماً به .أ هـ
والهمزة الذي يهمز بلسانه واللمزة الذى يلمز بعينيه.
وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذى جلساءه بسوء اللفظ ، واللمزة الذي يكسر عينه على جليسه ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه.
الفرق بين السخرية والاستهزاء:
إن بين السخرية والاستهزاء فرقا من جهتين :
الأولى السخرية تكون بالفعل وبالقول، والهزء لا يكون إلا بالقول.
الثانية أن السخرية يسبقها عمل من أجله يسخر بصاحبه أما الأستهزاء فلا يسبقه ذلك. فالهزء يكون بالقول المصحوب بسوء النية، وهو إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه. والسخرية والهزء من المحرمات ، قال السفاريني : وتحرم السخرية والهزء لقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ... ) الآية. ولنهييه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فى مواضع عديدة .أ هـ.
السخرية وجراثيم العجب والكبر
إن السخرية لا تنبعث إلا من نفس ملوَّثة بجراثيم العُجْبِ والتكبُّر، فهي تعمل على إيذاء من حولها بدافع الشعور بالفوقية المتغلغلة في أعماقها المريضة. لقد استهان إبليس بآدم وسخر منه قائلاً: أنا خير منه، فباء بالخسارة والخذلان، ولو أنه أمعن النظر في صفات آدم لأدرك أنه يمتاز عليه بصفات كثيرة، إنها داء من أدواء الجاهلية يجب تجنبه والبعد عنه وخصوصا عند المشاحنة والخصومة ، وهى من سمات الكفار والمنافقين ومن شأنها أن تفكك عرى المجتمع ويكفى أنها مخالفة صريحة لأمر الله عز وجل , ومبعدة من رضوانه سبحانه , تنسي الإنسان ذكر ربه ونذير شؤم لصاحبها ومن أسباب حلول العذاب بالساخرين.