الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أشعر أني أفقد إيماني وأن حبي لله اختفى..هل من نصيحة؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أشكركم على ما تقدمونه، وأعتذر عن الإطالة.

أمرّ بفترة صعبة لم أجد لها تفسيرًا؛ فقد بدأت بانتكاسة طالت، ثم ابتعدت عن النوافل، والأذكار، وكثرت ذنوبي، ولا أعلم هل هي مجاهرة أم لا؟ فقد كنت أظنها عابرةً كما حدث سابقًا، ولكن هذه المرة مختلفة؛ فقد شعرت بأنني أفقد إيماني، وحبي لله اختفى، ولم أعد أشعر بالله أصلًا.

دعوت الله باكيةً أن يوضح لي خطئي في منام، فرأيت حلمًا طويلًا، غريبًا، فُسّر بأنه نفاق، أو معصية، أو ابتلاء يعقبه إيمان أقوى، أكثر ما علِق بذهني منزل أحمر داكن بشع، كنت أرسمه أثناء انتظاري للاستحمام، كأنه واجب منزلي.

كنت سابقًا أحب الصلاة، والقرآن، والأذكار، أما الآن لم أسترجع ذلك الحب، حتى بعد التوبة، وهذا ما يؤلمني، أدعو، وأبكي يوميًا، وأتمنى فقط أن أشعر بالله مجددًا.

بعد الحلم، دعوت في الثلث الأخير من الليل أن أحب الله، وشعرت بتغير بسيط، لكن لا زلت لا أشعر بالله، كنت أرى دلائل حب الله لي من قبل، ولكنها الآن اختفت، حتى بعد مجاهدة النفس، لا توجد نتيجة، وأكثر ما يؤلمني أنني حين أذكر الله، أو أدعو، تأتيني شكوك وأسئلة في رأسي، أخاف حتى من نطقها.

سؤالي: لماذا يحدث هذا؟ وخاصةً بعد طاعة استمرت من رمضان إلى ما بعد يوم عرفة، لماذا حتى بعد التوبة لا أشعر بشيء؟ هل الحزن أو الاضطراب النفسي له علاقة؟ وهل هذا ابتلاء، أم جزاء؟ وهل الله غاضب علي؟ وكيف أعود وأحب الله من جديد؟

أفيدوني، ولا تنسوني من الدعاء، وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ هبة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بكِ -ابنتنا الكريمة- في استشارات إسلام ويب، نسأل الله تعالى أن يثبتكِ على الحق والخير، وأن يشرح صدركِ للطاعة والإيمان، وأن يصرف عنكِ مكر الشيطان.

ونحب أولًا -ابنتنا العزيزة- أن نطمئنكِ، ونزف إليكِ البشريات التي أخبرنا بها نبينا ﷺ، وحدثنا عنها ربُّنا في كتابه الكريم، فإن الله -سبحانه وتعالى- لا يضع حُبَّ الخير في صدر إنسان، ولا يغرس في قلبه حُبَّ الطاعة، وتأنيب القلب على المعصية، إلَّا إذا علم منه خيرًا -سبحانه وتعالى-.

فالإنسان لا يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه قبل ذلك، كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، والإنسان لا يتوجه إلى الله تعالى وإلى مرضاته، وابتغاء وجهه، والعمل بما يحبّه؛ إلَّا بعد أن يَقْسِمَ الله تعالى له من الهدى والخير ما يتولد عنه ذلك الحال، وتلك الأعمال؛ فـ «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ ‌بِهِ ‌خَيْرًا ‌يُفَقِّهُّ ‌فِي الدِّينِ»، ومن يردِ اللهُ به صلاحًا وسعادةً يشرح صدره للإيمان والطاعة، وهذا موضوعٌ تكلَّم عنه القرآن كثيرًا، وتكلَّم عنه الرسول ﷺ.

وليس من النفاق إذًا أن يجد الإنسان في نفسه تأنيبًا ولومًا لنفسه بسبب تَردِّي أحواله، بل هذا من الإيمان، وينبغي للإنسان أن يكون فقيهًا في دينه.

ونحن نرى أن سنكِ لا يزال صغيرًا، وربما غابت عنكِ أشياء كثيرة من أمور دينك، فنوصيكِ بأن تتفهمي هذه الأمور، وتتعلَّميها، حتى لا يستغل الشيطان جَهلكِ بها، فيوقعكِ في اليأس والإحباط، ويُخرجكِ عن هذا الطريق السَّوي الذي تسلكينه من حب الخير، والحرص على الطاعة، وإن وقعتِ أحيانًا في بعض المخالفات.

لهذا كله نقول: -أيّتها البنت الكريمة- ينبغي أولًا أن تعلمي أن الإنسان بطبيعته يَنسى ويَذكر، ويَعلم ويَجهل، ويُخطئ ويُصيب، والله تعالى خلق الإنسان بهذه الكيفية ليختبره، ويبتليه، وليستخرج منه عبادات بعد وقوعه في الذنب، منها: التوبة، والإنابة، والانكسار، والذل لله -سبحانه وتعالى،- فلو لم يقع في المعصية، لم يجد هذا الشعور بالذل، والانكسار، وتأنيب النفس والضمير.

والله تعالى حين يُقدّر على الإنسان الوقوع في المعصية، يريد منه -سبحانه وتعالى- أن يتوب، ويستغفر، ويندم، ويعرف قدر نفسه، ويعرف أن الله -سبحانه وتعالى- هو وحده صاحب الفضل، والعطاء، والمِنَّة، وأنه لو تركه لنفسه، فإن نفسه لا تأمره إلا بالسُّوء.

فينبغي للإنسان أن يستحضر هذه المعاني بعد وقوعه في الذنب، ويُجدد التوبة والاستغفار، ويرجع إلى الله تعالى، وهذه التوبة تمحو ما قبلها، كما قال الرسول ﷺ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» (رواه ابن ماجه، وحسّنه الألباني).

ثم اعلمي ثانيًا -أيّتها البنت الكريمة- أن الإنسان لا بد وأن يرجع إلى الذنب مرةً أخرى؛ كما قال ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ ‌ذَنْبٌ ‌يَعْتادُهُ: الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ»، ثم قال ﷺ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفْتَّنًا تَوَّابًا نَسِيًّا، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ» (رواه الطبراني)، فهو يُعرض للاختبار، ويقع في المعصية، ثم يتوب، ثم ينسى، ويقع مرةً ثانية، وهكذا.

المطلوب منه أن يتوب إلى الله توبةً صادقةً حين يقع في الذنب، ومن التوبة: أن يعزم ألّا يرجع إلى الذنب في المستقبل، وليس من شرط صحة هذه التوبة ألَّا يرجع إلى الذنب في المستقبل؛ فربما يضعف مرةً ثانية، وإذا ضعف مرةً ثانيةً فإن عليه أن يتوب، ولكن عليه أن يعزم عزمًا صادقًا وقت التوبة أنه لن يرجع.

أمَّا ما تشعرين به من فقدكِ لبعض إيمانك، ونقص حُبكِ لله؛ فهذه مشاعر طبيعية تصاحب الإنسان الصادق في إيمانه بعد وقوعه في الذنب، ولكن ينبغي له أن يستحضر في قلبه أن الله تعالى غفور رحيم، وأن الله -سبحانه وتعالى- واسع الفضل، وأنه -جل وعلا- يسامح، ويعفو، وأنه يُقدِّرُ على الإنسان الوقوع في المعصية؛ ليستخرج منه عباداتٍ هي أنفع من العبادات التي كانت قبل هذه المعصية، وهكذا، فإذا استحضر الإنسان هذا تجدد حبّه لله تعالى.

وقد قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام مسلم لحنظلة حين قال حنظلة: "نافق حنظلة"؛ بسبب أن قلبه يقسو بعد أن يخرج من مجلس رسول الله ﷺ، فقال له النبي ﷺ: «لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ ‌سَاعَةً ‌وَسَاعَةً»، وكرر هذا الكلام ثلاث مرات.

فالإنسان مُعرَّض للانتكاسات، ومُعرَّض لأن يزيد إيمانه أحيانًا، وينقص أحيانًا أخرى، ولا ينبغي له أن ييأس، وأن يُحبط، وأن يُفسح المجال للشيطان ليُخرجه عن الطاعات، بل يستحضر فضل الله تعالى، وأنه غفور رحيم، وأنه قريبٌ مُجيب، ويُجاهد نفسه للاستمرار في طريق الطاعات، وسيجد نفسه تتدرَّج مرةً ثانيةً في مراتب الإيمان والمحبة لله تعالى، وأنه يرتقي، ويزيد حبّ الله تعالى في قلبه شيئًا بعد شيءٍ، وهكذا.

خير ما ننصحكِ به هو الصحبة الصالحة؛ بأن تتعرّفي على النساء الصالحات، والفتيات الطيبات، وداومي على التواصل معهنَّ، والانتفاع بما في برامجهنَّ من الخيرات في الليل والنهار، وبذلك ستضمنين لنفسكِ -بإذن الله تعالى- الثبات، والاستمرار في هذا الطريق.

نسأل الله تعالى أن يوفقكِ دائمًا لكل خير.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً