السؤال
ما قولكم لمن يتعذر (بالحرية الشخصية) لعمل المعاصي والمنكرات، وكيف تردون عليهم؟
خلاصة الفتوى:
امتثال التكاليف الشرعية ليس المسلم حراً فيه، ومن زعم ذلك فهو على شفا هلكة، والحرية الشخصية هي في مجال المباحات فحسب ما لم يضر بالآخرين.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن هذا مسلك خطير جداً يخشى معه على صاحبه من الردة والعياذ بالله، إذ أن مقتضاه هو رد التكاليف الشرعية، إما جحوداً وإما عناداً واستكباراً وكلاهما من أقسام الكفر، وتوضيح ذلك أن الله خلق البشر وابتلاهم بالتكاليف الشرعية والآداب المرعي،ة واختص طائفة منهم فهداهم إلى صراط مستقيم هو الإسلام والذي معناه الانقياد لله في كل صغير وكبير، فمن التزم بعقد الإسلام صدق فيه وصف العبودية، ونال شرفها، ولا معنى للعبد -كما لا قيمة له- إلا بطاعة سيده، ولا يكون ذلك إلا بامتثال الأمر واجتناب النهي فيما أحب وكره، فإن خالف فهو عبد أيضاً، لكنه عبد آبق خارج على مولاه وسيده مستأهل للعقوبة مستوجب للذم، ثم إن كان هذا القول صحيحاً فماذا يصنع قائله بقوله تعالى:وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {آل عمران:104}، وقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ* كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ {المائدة:78-79}، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. انتهى. وغير ذلك من نصوص كثيرة في هذا الباب.
ثم ما هو الفرق عند هذا القائل بين المؤمن والكافر؟ بل ما الفرق بين الإنسان والحيوان غير قبول التكليف وامتثال الطاعة؟ قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ {محمد:12}، وقال سبحانه وتعالى: أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ* فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ* ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ* أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ {البلد}، ومن ثم فلا يصح بأي وجه أن يتعلل المسلم بحريته الشخصية في رد الأمر أو في الوقوع في النهي سواء معصية فما دونها، فإن فعل فإنه محاد لله، وقد قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ {المجادلة:20}، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنه لو عمل كل واحد بهذا المنطق الأعوج وتعلل بحريته الشخصية في فعل ما يريد لاختل نظام المجتمع وعمت الفوضى، لأن كثيراً من المعاصي والمنكرات التي يأتيها المرء يتعدى ضررها ولا شك، يبينه ما رواه البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجو ونجوا جميعاً.
ونحسب أن الأمر واضح، والرد على أمثال هؤلاء لا يحتاج إلى كبير جهد، والموفق من وفقه الله تعالى، وليعلم أن مجال الحرية للمسلم إنما هو في المباحات، فيأتي ما يشاء منها ويترك ما يشاء ما لم يؤذ غيره أو يضر به، أما في غير ذلك فهو مقيد بالشرع، وكل ذلك تحقيقا للعبودية لله تعالى، ويا لها من منزلة لو كانوا يعلمون! منزلة وصف الله بها أشرف خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم في أعلى المقامات وأسمى المنازل الإسراء والدعوة والوحي وتنزيل الكتاب، كما امتدح بها سائر أنبيائه في القرآن الكريم.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني