الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقبل الجواب نريد أولا أن نلفت انتباهك إلى أن الألفاظ التي أشرت إليها ـ الطلاق، السراح، والفراق ـ وغيرها من صيغ الطلاق لا يقع الطلاق بمجرد التلفظ بها، بل لا بد أن تكون في سياق كلام يفيد معناها كأن يقول: فارقتك، أو سرحتك، أوأنت مطلقة، أو طالق، أو أنت الطلاق، ونحو ذلك، لا أن مجرد جريان لفظ الطلاق على لسانه يحصل به طلاق زوجته، وفي خصوص ما سألت عنه: فمن خاطب زوجته بالبينونة أو البتة حيث قال مثلا: أنت بائن، أو طالق البتة، فقد لزمته ثلاث طلقات عند الحنابلة، وعند الشافعية والحنفية يلزمه ما نواه، فإن لم ينو طلاقا فلا شيء عليه، قال ابن قدامة الحنبلي في المغني بعد بحث في المسألة: وهذه أقوال علماء الصحابة, ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم, فكان إجماعا, ولأنه طلق امرأته بلفظ يقتضي البينونة, فوجب الحكم بطلاق تحصل به البينونة, كما لو طلق ثلاثا, أو نوى الثلاث, واقتضاؤه للبينونة ظاهر في قوله: أنت بائن، وكذا في قوله: البتة، لأن البت القطع, فكأنه قطع النكاح كله, ولذلك يعبر به عن الطلاق الثلاث. انتهى.
وفى دقائق أولي النهي ممزوجا بمنتهي الإرادات الحنبلي: و إن قال أنت طالق واحدة ثلاثا، أو طالق ثلاثا واحدة أو طالق بائنا، أو طالق البتة، أو طالق بلا رجعة، فثلاث تقع بذلك لتصريحه بالعدد، أو وصفه الطلاق بما يقتضي الإبانة. انتهى.
وفى المبسوط للسرخسي الحنفي: ولو قال أنت مني بائن، أو بتة، أو خلية، أو برية، فإن لم ينو الطلاق لا يقع الطلاق، لأنه تكلم بكلام محتمل، فالبينونة تارة تكون من المنزل، وتارة تكون في الصحبة والعشرة، وتارة من النكاح، واللفظ المحتمل لا يتعين فيه بعض الجهات بدون النية أو غلبة الاستعمال، ولأن بدون النية معنى الطلاق مشكوك في هذا اللفظ , والطلاق بالشك لا ينزل، وإن نوى الطلاق فهو كما نوى، إن نوى ثلاثا فثلاث لأنه نوى أتم أنواع البينونة. انتهى.
وقال النووي فى المجموع ـ وهو شافعي: وأما الكناية فهي كثيرة، وهى الألفاظ التي تشبه الطلاق وتدل على الفراق، وذلك مثل قوله أنت بائن، وخلية وبرية وبتة وبتلة، إلى أن قال: فإن خاطبها بشئ من ذلك ونوى به الطلاق وقع، وإن لم ينو لم يقع، لأنه يحتمل الطلاق وغيره، فإذا نوى به الطلاق صار طلاقا، وإذا لم ينو به الطلاق لم يصر طلاقا. انتهى.
أما عند المالكية: فتلزم ثلاث طلقات في المدخول بها، وتقبل نيته في غيرها، فإن قال قصدت واحدة صدق بيمين قال الباجي في المنتقي: وهذا في المدخول بها، فأما غير المدخول بها, فإن نوى الثلاث أو لم ينو شيئا فلا خلاف في المذهب أنها ثلاث, وإن نوى واحدة، فهل ينوي أو لا؟ فيه روايتان إحداهما: لا ينوي وتلزمه الثلاث وبه قال سحنون وابن حبيب, والرواية الثانية: أنه ينوي وبها قال مالك، وقال أيضا: إذا قلنا: إنه ينوى في غير المدخول بها فإنه يحلف أنه ما أراد إلا واحدة في البتة, والبائنة, والخلية, والبرية، قال سحنون: إنما يحلف إذا أراد نكاحها وليس عليه يمين قبل إرادة النكاح ونحوه، قال ابن الماجشون ووجه ذلك أنه لا معنى ليمينه قبل ذلك الوقت, إنما يحتاج إليه عند النكاح لما يريد من استباحتها فيحلف ليتوصل بذلك إلى استباحتها. انتهى.
وقال المواق في التاج والإكليل: اللخمي: المشهور في: أنت بائنة، أنه ثلاث وينوي قبل البناء لا بعده وهو مذهب المدونة.
أما البتة فمعناها لغة: القطع فكأن الزوج قد قطع النكاح من أصله، قال ابن منظور في لسان العرب :
والبَتَّةُ اشتقاقُها من القَطْع غيرأَنه يُستعمل في كل أَمْرٍ يَمضي لا رَجْعَةَ فيه. انتهى.
ويتصرف من البتة خمسة ألفاظ وهي الفعل الماضي مثل: بتَتُّك، واسم الفاعل مثل: أنا باتٌّ لك، واسم المفعول كأنت مبتوتة، والمضارع وهو: أبُتُّكِ، وفعل الأمر مثل: بتَّ زوجتك، مثلا، وكل هذه الألفاظ تفيد القطع، والذى يقع به الطلاق منها: هو اسم الفاعل، واسم المفعول، والفعل الماضي، ولا يقع بالفعل المضارع، لأنه وعد ولا بالأمر، لأنه لا يصلح للإنشاء، ولا للخبر، ويشهد لما ذكرنا، ما جاء في الإنصاف للمرداوي الحنبلي حيث قال:
تنبيه: قوله: صريحه لفظ العتق والحرية كيف صرفا.
ليس على إطلاقه، فإن الألفاظ المتصرفة منه خمسة: ماض، ومضارع، وأمر، واسم فاعل، واسم مفعول والمشتق منه وهو المصدر.
فهذه ستة ألفاظ والحال أن الحكم لا يتعلق بالمضارع ولا بالأمر، لأن الأول وعد، والثاني لا يصلح للإنشاء ولا هو خبر.
فيكون لفظ المصنف عاما أريد به الخصوص.
وقد ذكر مثل هذه العبارة في باب التدبير وصريح الطلاق. انتهى.
وإذا تلفظ الشخص بالبينونة أو البتة وهو لا يعرف معناها فلا يلزمه شيء لعدم قصد إيقاع الطلاق، لأنه ليس مختارا للطلاق، قال ابن قدامة في المغني: فإن قال الأعجمي لامرأته: أنت طالق, ولا يفهم معناه, لم تطلق، لأنه ليس بمختار للطلاق, فلم يقع طلاقه, كالمكره. انتهى.
وفى قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام متحدثا عن هذا الموضوع: وإن قصد العربي بنطق شيء من هذه الكلم مع معرفته بمعانيها نفذ ذلك منه, فإن كان لا يعرف معانيها مثل أن قال العربي لزوجته أنت طالق للسنة، أو للبدعة وهي حامل بمعنى اللفظين, أو نطق بلفظ الخلع أو غيره أو الرجعة أو النكاح أوالإعتاق وهو لا يعرف معناه مع كونه عربيا، فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصد إلى اللفظ الدال عليه, وكثيرا ما يخالع الجهال من الذين لا يعرفون مدلول اللفظ للخلع ويحكمون بصحته للجهل بهذه القاعدة. انتهى.
وقال الخرشي في شرحه لمختصر خليل المالكي: يعني أن من لُقن لفظ الطلاق بالعجمية أو بالعكس فأوقعه وهو لا يعرف معناه، فإنه لا يلزمه شيء ـ لا في الفتوى ولا في القضاء ـ لعدم القصد الذي هو ركن في الطلاق، فإن فهم فإنه يلزمه اتفاقا. انتهى.
وأما من لا يتذكر ما إذا كان قد قال كلاما يلزم منه الطلاق أو لم يقله، فالأصل أنه لم يقله ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بيقين وبالتالي، فإنه لا يكون مطلقا حتى يجزم بأنه قال ما يلزم منه الطلاق وهو فاهم لدلالة ما قال.
والله أعلم.