الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنكاح المرأة بدون إذن وليها باطل عند جمهور أهل العلم خلافا للإمام أبي حنيفة، وموافقةُ الأب على العقد بعد تمامه لا يجعله صحيحا، كما تقدم في الفتوى رقم: 50550.
لكن يصح هذا النكاح ويمضي إذا حكم بصحته قاض شرعي أو باشر عقده من يقلد الإمام أبا حنيفة، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 47816.
وعلى مذهب الجمهور من فساد هذا النكاح -وهو القول الذي نفتي به- فلا بد من فسخه من طرف القاضي أو طلاق الزوج.
قال ابن قدامة فى المغني: وإذا تزوجت المرأة تزويجا فاسدا, لم يجز تزويجها لغير من تزوجها حتى يطلقها أو يفسخ نكاحها. وإذا امتنع من طلاقها, فسخ الحاكم نكاحه . نص عليه أحمد. انتهى.
وبالتالي فهذا الطلاق الأول الذي أوقعه الزوج يعتبر فسخا لهذا النكاح الفاسد وإنهاء للعلاقة بين الزوجين وهو بائن، ولا تصح الرجعة بعده لأن من شروطها أن تكون أثناء العدة من نكاح صحيح.
قال الدسوقي في حاشيته على شرح الدردير المالكي: خرج بالصحيح النكاح الفاسد الذي يفسخ بعد الدخول سواء فسخ بعده أو طلق فلا رجعة كخامسة. انتهى.
وقال البهوتي الحنبلي في كشاف القناع متحدثا عن شروط الرجعة: الثاني: أن يكون النكاح صحيحا لأن مَن نكاحها فاسد تبين بالطلاق فلا تمكن رجعتها, ولأن الرجعة إعادة إلى النكاح فإذا لم تحل بالنكاح لعدم صحته وجب أن لا تحل بالرجعة إليه. انتهى.
وإذا لم تصح الرجعة لم يصح الطلاق، فعلى مذهب الجمهور تكون المرأة المذكورة قد بانت من زوجها بالطلاق الأول، وبالتالي فما أوقعه بعد ذلك من طلاق لا يصح لأنه لم يصادف محلا، وفي حالة صحة النكاح كما إذا كان المباشر لعقده يقلد مذهب أبي حنيفة أو حكم بصحته قاض يرى ذلك فقد وقع الطلاق مرتين حسبما ذكر السائل أولا: طلقها واحدة وهي نافذة إذا كان الزوج يعي ما يقول وقت التلفظ بالطلاق، فإن كان لا يعي ما يقول لشدة غضبه فلا شيء عليه لارتفاع التكليف عنه حينئذ كما تقدم في الفتوى رقم: 35727.
ثانيا: وقع مرتين وقت الغضب أيضا فإن كان لا يعي ما يقول فلا شيء عليه، وإن كان يعي ما يقول فيقع الطلاق إذا كانت زوجته ما زالت في عدتها من طلاقه الرجعي الأول لأن الرجعية كالزوجة.
قال ابن قدامه فى المغني: والرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره, وإيلاءه , ولعانه, ويرث أحدهما صاحبه بالإجماع. انتهى.
وإن كان الطلاق الثاني بعد تمام عدتها فلا يقع منه شيء لكونه لم يصادف محلا، وعدتها تنقضي بطهرها من الحيضة الثالثة بعد الطلاق إن كانت ممن تحيض، أو بوضع حملها إن كانت حاملا، أو بمضي ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض. وفي حال وقوع الطلاق الثاني فينظر في لفظه فإن كان قد قال : أنت طالق أنت طالق بتكرير أنت مع لفظ طالق فتلزمه طلقتان إذا قصد إنشاء الطلاق بالعبارتين معاً أو لم يقصد شيئا، وإن قصد إنشاء الطلاق بالعبارة الأولى فقط وجعل الثانية تأكيدا أو قصد بها إفهام زوجته فتلزمه واحدة، وإن كانت الصيغة أنت طالق طالق بتكرير لفظ طالق دون لفظ أنت لزمته طلقة واحدة إذا قصد إنشاء الطلاق بالعبارة الأولى فقط وجعل الثانية تأكيدا أو لم يقصد بالتكرير شيئا، وإن قصد إنشاء الطلاق بالعبارتين معا أي قصد إيقاع طلقتين لزمته طلقتان.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في الشرح الممتع: فإذا قال لها: أنت طالق وكرره وقع العدد، فإن كرره مرتين وقع طلقتين، وإن كرره ثلاثاً فثلاث طلقات، واعلم أن هذه المسألة تارة يكرر الجملة كلها، وتارة يكرر الخبر وحده، فإن كرر الجملة: أنت طالق، أنت طالق، يقع العدد، وإن كرر الخبر فقط فقال: أنت طالق، طالق، طالق، فإنه واحدة، ما لم ينوِ أكثر حتى على المذهب، وكثيرٌ من طلبة العلم يغلطون في هذه المسألة، يظنون أن تكرار الخبر كتكرار الجملة، وليس كذلك، فإذا قال: أنت طالق طالق طالق فإنه يقع على المذهب واحدة، ما لم ينوِ أكثر؛ فإن نوى أكثر فالأعمال بالنيات، إذاً فالتكرار له وجهان:
الأول: أن يكون تكرار جملة، فيقع الطلاق بعدد التكرار.
الثاني: أن يكون تكرار خبر فقط، فيقع واحدة ما لم ينو أكثر، فإن نوى أكثر وقع حسب التكرار.
إلى أن قال: فإذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، يقع ثلاثاً، لكن لو قال: أردت التوكيد نقبل منه، ويقع واحدة؛ لأن التوكيد هنا يصح، فاللفظ واحد ومتصل. انتهى.
وفى حال وقوع الطلاق ثلاثا تصير الزوجة محرمة على زوجها ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا نكاح رغبة لا نكاح تحليل ثم يطلقها بعد الدخول، مع التنبيه على أن الزوجة لا تأثم بطلب الطلاق لأجل غيبة زوجها الطويلة، كما ذكرنا في الفتوى رقم: 68677.
والله أعلم.