الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالجزئية التي تحتاج إلى جواب في هذا السؤال هو ما سماه السائل الكريم بـ: (تأويل النسب الموجودة في القرآن). وهنا ننبه على أن القرآن المجيد وإن كان نص على مقدار الأسهم إلا أنه لم ينص ـ لا من قريب ولا من بعيد ـ على أن مجموع هذه الأسهم في كل مسألة يجب أن تساوي الواحد الصحيح. ولإيضاح ذلك لابد من اعتبار ما هو ضد العول، وهو الرد، فلو أن رجلا مات ولم يترك إلا ابنته، فهل نعطيها النصف فرضا، ونحرمها من باقي التركة باعتبار أن القرآن نص على أن فرضها النصف، أم نعطيها النصف فرضا والباقي ردا ؟!
وإذا استبان هذا، فنقول: هذه الأنصبة المقدرة في القرآن لأصحاب الفروض لا يستفاد منها شيء واحد، وهو القدر المستحق من التركة لكل وارث، بل يستفاد منها مع ذلك: قدر هذا الحق بالنسبة لحقوق بقية الورثة منسوبا لمجموع التركة، وذلك في حال زيادة الأسهم أو نقصها، كما في حالتي الرد والعول.
ولذلك كان جواب المرتضى في (البحر الزخار) على احتجاج ابن عباس رضي الله عنهما على إنكار العول بقوله: إن الذي أحصى رمل عالج يعلم أنه لا يكون في المال نصف ونصف وثلث, ذهب النصفان بالمال.
قال المرتضى: لم يرد (الله تعالى) أن الورثة يأخذون نصفا ونصفا وثلثا, وإنما يذكر ذلك ليعرف قدر أصل السهام ومقدار النقص عليهم .. ونظير ذلك ما نقول في الرد على بنت وأم: للبنت النصف, وللأم السدس, والفريضة أصلها من ستة, ثم بالرد صارت من أربعة, وإنما ذكرنا أن أصلها من ستة ليعرف حصة كل وارث من الأصل, وأن الرد على قدر ذلك. اهـ.
ولمزيد البيان ننبه على أن أحكام الشريعة لا تستنبط من النصوص الشرعية كتابا أو سنة، في كل الأحوال على وتيرة واحدة، فإن مآخذ الأحكام ليست متساوية في الوضوح والظهور، ومن حكمة ذلك أن يظهر أثر العلم ويستبين فضل أهله على غيرهم، وقد قال الله عز وجل: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. {النساء:83}.
قال السعدي: في هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. اهـ.
والمقصود أن الله تعالى قد قضى بحكمته أن يكون من آيات القرآن ما في دلالته أو معناه شيء من الخفاء، وأن تكون مثل هذه المواضع مظهرة لفضيلة الراسخين في العلم، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. {آل عمران: 7}.
وإذا تقرر هذا، لم يعد للطعن في القرآن ـ بعد بيان الراسخين في العلم للمراد به ـ مدخل، وقد قال ابن قدامة في (المغني): لا نعلم اليوم قائلا بمذهب ابن عباس, ولا نعلم خلافا بين فقهاء الأمصار في القول بالعول بحمد الله ومنه. اهـ.
وقال ابن العربي في (أحكام القرآن): اجتمعت الأمة على ما قال عمر, ولم يلتفت أحد إلى ما قال ابن عباس; وذلك أن الورثة استووا في سبب الاستحقاق وإن اختلفوا في قدره, فأعطوا عند التضايق حكم الحصة, أصله الغرماء إذا ضاق مال الغريم عن حقوقهم فإنهم يتحاصون بمقدار رءوس أموالهم في رأس مال الغريم. اهـ.
والله أعلم.