الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمما يعذر به لدفع الكفر الجهل ومن أدلة العذر به قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا {الإسراء:15} وقوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ {الأنعام: 19}
ومنها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين ففعلوا به ذلك، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له. فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك.
ومنها حديث ذات أنواط، فهو من جملة أدلة العذر بالجهل لمن كان حديث عهد بإسلام، وقد صرح بذلك راوية أبي واقد الليثى والحديث صحيح وهو في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وغيرهما.
والخلاصة أن العذر بالجهل يقول به جميع أهل العلم، إلا أنهم يتفاوتون في كيفية الأخذ به، وفي المسائل التي يعذر فيها بالجهل.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم من ينبههم. (الدرر السنية).
وقال رحمه الله في مجموعته: وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك.
وأما من يدعي أن مثل هذه الأمور لا يعذر فيها بالجهل لكونها أصبحت معلومة من الدين بالضرورة فلا يوافق على ذلك إذ لو كانت كذلك لما انتشر في بعض البيئات جهلها، ومن وجد آباءه على شيء يظنه عبادة صحيحة فإنه لن يسأل الغير عن صحته ليطمئن لاعتقاده صحته، وإنما يصدر السؤال من شاك أو جاهل، وأما من يعتقد أنه على صواب وشرعة قويمة فلا يتردد فيما لديه، لكن إذا بين له الصواب وخطأ ما هو عليه فعندئذ لا يعذر بالجهل. وبالتالي فجهل أمثال أولئك الذين عاشوا في بيئات تنتشر فيها الأمور الشركية يعذرون بجهلهم لدرء وصف الكفر عنهم حتى تقام عليهم الحجة. ومن منهج أهل السنة والجماعة عدم تكفير المعين حتى تقام عليه الحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر؛ كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك. انتهى.
وأما وصف الأفعال أو الأقوال بكونها من الكفر أو الشرك فهذا لا يلزم منه كفر أو شرك فاعلها أو قائلها .
والخلاف بين طلبة العلم إذا كان لبيان الحق وعرض النصوص ومناقشتها مناقشة علمية هادئة أو ذكر كلام أهل العلم في النوازل والقضايا ونحو ذلك أمر مشروع، ولا يجوز أن يؤدي هذا إلى الشحناء والبغضاء. وانظر الفتوى رقم: 30268، واعلم أنه لا يلزم المقلد أن يتبع فتوى عالم بعينه ويقدم في التقليد العلماء الثقات العارفين بالواقع في بلدانهم.
ثم إننا ينبغي أن نحرص على إيجاد المخارج للمسلم من الكفر ، ولا نحرص على إدخاله فيه، وإنما نبين له الحق ونجتهد في دعوته إلى الخير ونبذ الأفعال والأقوال الشركية وغيرها مماحرمه الشارع، ونحمل فعله وقوله على أحسن المحامل حتى نتيقن خلاف ذلك. قال الزرقاني في مناهل العرفان: ولقد قرَّر علـماؤنا أن الكلـمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ثم احتملت الإيمان من وجه واحد، حُملت علـى أحسن الـمـحامل وهو الإيمان. وهذا موضوع مفروغٌ منه ومن التدلـيل علـيه. اهـ
وقال ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح ص 709: وهذه نزعةٌ جسيمةٌ وجرأةٌ عظيمةٌ ، فإن عبارة آحاد الناس إذا احتملت تسعة وتسعين وجهاً من الحمل على الكفر . ووجهاً واحداً على خلافه لا يحل أن يحكم بارتداده.
وننصحكم جميعا بنبذ الفرقة والاختلاف وعدم التدابر والتنابز بالألقاب فذلك مما حرمه الإسلام نصا قال تعالى: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ {الحجرات:11} وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {الحجرات:10}.
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"
والله أعلم.