السؤال
1-يبدو أن أمر اللحية وحلقها من الأمور الإشكالية لدى الفقهاء، ولديَّ أيضاً فثمة مجلدات قرأتها كثيراً لم تقنعني لأنها تتعامل من النص النبوي وفق إطلاقٍ كُلي أو وفق منهج ظاهري، إلا أن الأحاديث الصحيحة والمعدودة في هذا الجانب قيدتْ فعل الترك بفعل المخالفة أي أن العلة في ترك اللحية هو المخالفة لليهود والمجوس وغيرهما من الديانات التي تجزُ لحاها.
سؤالي هو: إن غابت العلة التي هي المخالفة فهل ينتقل الحكم إلى الاستحباب، لأن ذلك ما اقتنعت به بعد أن قرأت كتابا كافيا وشافيا وهو حكم حلق اللحية للعلامة يوسف الجديع؟.
2-المخالفة الآن لم تصبح إشكالية مرتبطة باللحية وغيرها، بل إن الأوراق الثبوتيّة والمدنية أصبحتْ معبراً أساسياً لتحديد الوجهة في الديانة وهذا ما لم يكن موجوداً سابقاً، لذلك وجب الاستقلال شكلياً في اللحية وفي حف الشارب كي يعبر هذا الفعل عن المضمون الإسلامي، إلا أنهُ الآن لم يعد معبراً فالناس حين تسألك لا تنظر إلى لحيتك وشاربك بل تسأل عن صوتك وما تقول إجابتك، والدول والمنظمات الأمنية لا تفعل ذلك أيضاً بل تنظر إلى وثائق الشخص الرسمية. وهذه النازلة مما لا شك فيه معتبرة لدى الباحث عن الحكم الفقهي وفق سياقه الزماني والمكاني؟..
3-اقنعوني أرجوكم فعقلي أصبح مشغولاً بهذه الأسئلة ولا حجة لدي في أقول العلماء، لأنني لا أتعامل معها وإنما أتعامل مع ما قالهُ النبي حيث إنهُ صلوات الله عليه أمر بصبغ الشيب وبعض الصحابة لم يصبغوه. فهذا الأمر لم يدل على الوجوب فكيف باللحية التي ارتبط حكمها بقرينة المخالفة؟.
4-بداخلي أشياءٌ كُثر إلا أنني أكتفي بهذا كي لا أُطيل عليكم ولأن المساحة لا تكفي وتحياتي لكم.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن إعفاء اللحية واجب، للأوامر المتكررة بألفاظ متعددة من الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 71215.
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كان أمرا من ربه تبارك وتعالى ولم يربطه بمجرد مخالفة الكفار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي أن أعفي لحيتي وأحفي شاربي. رواه ابن بشران في أماليه عن أبي هريرة، ورواه أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس، والحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن أبي كثير مرسلا، وحسنه الألباني بمجموع طرقه.
وكون بعض الأحكام شرعت لأسباب معينة، لا يفيد عدم وجوب العمل بها عند عدم وجود السبب، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر عند علماء الملة.
قال النووي في المجموع: فالتمسك بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على المختار عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول. انتهى.
وقال ابن الشاطّ في إدرار الشروق على أنواء الفروق: العبرة عند الفقهاء والأصوليين بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيستدلون أبداً بظاهر العموم وإن كان في غير مورد سببه. انتهى.
وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء. انتهى.
ويمثل العلماء لهذا بسنية الرمَل والاضطباع في الطواف، مع أنه ورد على سبب، وهو إغاظة مشركي مكة حينما يظهر لهم النشاط من الصحابة رضي الله عنهم في الطواف متمثلاً في هذين الفعلين، ورغم زوال السبب فقد بقي الحكم إلى يوم القيامة.
قال الزركشي في البحر المحيط: وترجيحهم الميل إلى تعميم الحكم كما في الرمل والاضطباع في الطواف، وجعل الرافعي منه أن العرايا لا يختص بالمحاويج على الصحيح، وإن كان سبب الرخصة ورد في المحاويج تمسكاً بعموم الأحاديث. انتهى.
والقول بتحريم حلق اللحية هو رأي جماهير أهل العلم، بل نقل بعض العلماء الإجماع على حرمة ذلك، فقد قال ابن حزم في مراتب الإجماع: اتفقوا أن حلق جميع اللحية مُثْلة لا تجوز. مراتب الإجماع.
وقال أبو الحسن ابن القطان المالكي: واتفقوا أن حلق اللحية مُثْلَة لا تجوز. الإقناع في مسائل الإجماع.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في التمهيد: يحرم حلق اللحية.
وقال الشيخ علي محفوظ من علماء الأزهر: وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها. الإبداع في مضار الابتداع.
وما ذكروه من الاتفاق خالف فيه بعض محققي الشافعية فذهبوا لكراهة حلقها، ولكن المنقول عن الإمام الشافعي في حلق اللحية هو التحريم كما قال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج إنه نص في الأم على تحريم حلقها، وأما الكراهة فقد نقلت عن شيخي الشافعية الإمام النووي والرافعي فقال: فَائِدَةٌ قَالَ الشَّيْخَانِ يُكْرَهُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ الرِّفْعَةَ فِي حَاشِيَةِ الْكَافِيَةِ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى التَّحْرِيمِ. اهـ
ثم إن زالت المخالفة في اللحية بقيت الحكمة الأخرى منها وهي الاقتداء بسنة المرسلين.
والله أعلم.