الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

طلاق الموسوس بين الفقه والطب النفسي

السؤال

ذكرت بعض المواقع الإسلامية الإلكترونية على الإنترنت نقلاً عن فقهاء مسلمين، أن تلفظ مريض الوسواس بالطلاق لا يقع به طلاقه، لأنه تلفظ به رغماً عنه، والذي أراه أن حقيقة الأمر غير ذلك، وهذا ما دعاني لأن أشرح تعريف مرض الوسواس وخصائصه، ومناقشة الموضوع طبياً، ومناقشة آراء الفقهاء بآراء فقهاء آخرين والله أعلم.
مرض الوسواس هو مرض عام لا يصيب المسلم وحده، بل يصيب جميع البشر، إنما يأتي للمسلم خاصة بأمور تتعلق بالتدين، كالوضوء والصلاة، والطلاق، أو بالله سبحانه وتعالى، لأن خلفية المسلم الفكرية والعقائدية إسلامية، ولو كانت الخلفية الفكرية والعقائدية للمصاب بالوسواس خلفية علمية، أو تاريخية، أو فلسفية أو .....الخ لأخذ الوسواس موضوعاً يتعلق بهذه الخلفية الفكرية الخاصة.
وللأعراض الو سواسية خصائص هي:
-أنها خبرات غير مقبولة من الشخص وغير مرغوب بها، ومزعجة ومؤلمة له، ويرى أنها غريبة أو غير منطقية، أو يراها تافهة أو سخيفة لا داعي لها.
-أن هذه الأفكار أو الدوافع أو التصرفات، أو المخاوف تستحوذ على الشخص، ويجد نفسه في كل مرة مدفوعا بدافع ذاتي قوي للعودة إليها وتكرارها رغم إدراكه أن هذا التكرار لا معنى له، ولا داعي له، وهو يقاوم دافع التكرار باستمرار.
-إن استطاع الشخص التغلب على تسلط هذه الوساوس عليه وإبعادها عنه، فإنه سرعان ما يشعر ثانية بتوتر داخلي شديد يزداد تدريجياً حتى يصل إلى أن يستسلم لها ويكررها ليرتاح، ولكنه بذلك يشعر بالفشل وآلام نفسية.
-رغم عجز الشخص عن التحكم والسيطرة على وساوسه، إلا أنه يدرك تماماً أنها صادرة من ذاته وليست مفروضة عليه من أي جهة أخرى، فالتفكير والدوافع والخوف، والتصرفات الو سواسية ليست السلوك العادي للشخص وإن كانت نابعة من ذاته وبإرادته، بل هو مجبر عليها من داخله، ولا يستطيع التوقف عن تكرارها رغم مقاومته الواعية لها.
ولشدة الأعراض الو سواسية درجات: الدرجة الخفيفة، والمعتدلة، والشديدة.
الوسوسة الخفيفة يستطيع المريض بها أن يمسك نفسه ولا ينطق بالطلاق حتى وإن كان متضايقاً، ويقال مثل ذلك عن الوسوسة المعتدلة، أما الوسوسة الشديدة فإنني بصفتي طبيباً نفسانياً أقول: إن لهذه الحالة مهما اشتدت علاجاً دوائياً و/ أو سلوكياً، فعوضاً أن نقول للمصاب “ لا يقع الطلاق أو يقع الطلاق “ نقول له راجع طبيباً نفسياً خبيراً ويعطيك الدواء المناسب، وإن استعملته بانتظام فستتغلب على هذا الدافع الداخلي القوي المزعج الذي يدعوك إلى الطلاق وغيره، ولدينا الآن أدوية تعالج الوسواس، وهي فعالة نسبياً لا ضرر منها ولا إدمان ولا اعتياد عليها، وإن ظهر للدواء مضاعفات، فإنه يمكن التغلب عليها، ونفس الشيء يقال لمن لديه وسواس فكري ديني أي لديه أفكار سلبية بشعة نحو الله سبحانه وتعالى، ونحو الرسول صلى الله عليه وسلم.
إنه في الوقت الحاضر ومع تقدم الطب النفساني أقول لهؤلاء المصابين بالوسواس الفكري الديني إياكم والتلفظ بلفظة الكفر أو غيرها، كما أقول للمصاب بوسواس الوضوء أو الصلاة ألا يترك العبادة بحجة أنه موسوس وأنه لا فائدة من عبادته، فكل هذا له علاج حديث دوائي وسلوكي يخففه أو يزيله.
إخوتي وأخواتي لو فتحنا الباب على مصراعيه للمصاب بالوسواس بعدم وقوع طلاقه إذا تلفظ به ستعود للمصاب دوافع التلفظ بعد فترة قصيرة لا تتجاوز عدة دقائق، وهنا وقعنا في فوضى الإفتاء وأن التلفظ بالطلاق لن يحل المشكلة.
إنني أدعو فقهاءنا الأفاضل أن يبحثوا الموضوع مع الأطباء قبل إصدار تعميم عن مرض الوسواس يفيد بعدم وقوع الطلاق عند تلفظ المصاب بالوسواس، أو أنه يقع، وأدعوهم للسؤال عن الجديد في الطب النفساني فيما يتعلق بمرض الوسواس، ولا أتعدى على السادة الفقهاء إن قلت إن التلفظ بالطلاق عند المريض الموسوس في وقتنا الحاضر مع تقدم الطب يوقع الطلاق - والله أعلم.
وما نقله العالم الفقيه ابن عابدين -رحمه الله- عن الليث، وما نُقِل عن ابن القيم رحمه الله في طلاق الموسوس كان القصد منه حصراً طلاق الشخص المُكرَه المغلوب على عقله، أو زائل العقل كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم (( لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق )) فالإغلاق هنا هو الإكراه الذي يغلب الإرادة قسراً، ولا ينطبق هذا في الوقت الحاضر على الوسواس حتى لو كان شديداً.
وقد اختلف الفقهاء في حكم طلاق المُكرَه والسكران والغضبان ( الذي فقد السيطرة على نفسه ) فأوقع بعضهم طلاق هؤلاء وبعضهم الآخر لم يوقعه ( الموسوعة الفقهية ).
فالموسوسون المصابون بوسواس خفيف الشدة، أو معتدل الشدة، وحتى كثير من المصابين بالوسواس الشديد لا يشملهم وصف (( المغلق أو المكره المغلوب على أمره )) الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق )) وأورد هنا تعريف الإكراه في الطلاق من الموسوعة الفقهية الكويتية: (( الإكراه في موضوع الطلاق معناه: حمل الزّوج على الطّلاق بأداة مرهبة.
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى وقوع طلاق المكره إلا إذا كان الإكراه شديداً، كالقتل، والقطع، والضّرب المبرّح، وما إلى ذلك، وذلك لحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق. ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه. أي أنه انعدام الإرادة والقصد، فكان الشخص كالمجنون والنّائم، وأما إن كان الإكراه ضعيفاً، أو ثبت عدم تأثّر المُكرَه به تأثراً شديداً، فإن تلفظه بالطلاق يوقع طلاقه لوجود الاختيار .
وذهب الحنفيّة إلى وقوع طلاق المكره مطلقاً، لأنّه مختار له بدفع غيره عنه به، فوقع الطّلاق لوجود الاختيار .
وهذا كلّه في الإكراه بغير حقّ، فلو أكره شخص على الطّلاق بحقٍّ، كالمُولِي إذا انقضت مدّة الإيلاء بدون فيء، فأجبره القاضي على الطّلاق فطلّق، فإنّه يقع بالإجماع ))
وأرجو من السادة الفقهاء أيضاً الرجوع إلى كتب الطب النفساني باللغة العربية، ومنها كتاب: (( المرشد إلى الطب النفساني )) الجزء الأول، أو الاتصال بالأطباء للتشاور معهم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فجزاك الله خيرا على ثقتك بموقعنا، وحرصك على النصح للمسلمين، واعلم أن قول الفقهاء بعدم وقوع طلاق الموسوس ليس على إطلاقه، وإنما قيدوه بحال يكون فيه الموسوس مغلوبا على عقله، أما إذا لم يكن مغلوبا على عقله فطلاقه كطلاق غيره. فالإمام الشافعي (رحمه الله) يقول في كتاب الأم: وَمَنْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ بِفِطْرَةِ خِلْقَةٍ، أَوْ حَادِثِ عِلَّةٍ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِاجْتِلَابِهَا عَلَى نَفْسِهِ بِمَعْصِيَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ، وَلَا الصَّلَاةُ، وَلَا الحُدُودُ. وَذَلِكَ مِثْلُ الْمَعْتُوهِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمُوَسْوَسِ، وَالْمُبَرْسَمِ، وَكُلِّ ذِي مَرَضٍ يَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ مَا كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ. فَإِذَا ثَابَ إلَيْهِ عَقْلُهُ فَطَلَّقَ فِي حَالِهِ تِلْكَ، أَوْ أَتَى حَدًّا أُقِيمَ عَلَيْهِ وَلَزِمَتْهُ الْفَرَائِضُ. اهـ

فالحكم بوقوع طلاق الموسوس أو عدمه حكم شرعي يرجع فيه لأهل الاختصاص بعلوم الشريعة، ولا يغني عن بيانه بالكلية توجيه السائل لطلب العلاج عند الأطباء النفسيين، مع أنه ليس بين بيان الحكم الشرعي وبين توجيه الموسوس لطلب العلاج النفسي تعارض، بل كل من الأمرين مطلوب ونافع للموسوس، ونحن في موقعنا نرشد الموسوس إلى عرض نفسه على طبيب نفسي. وراجع على سبيل المثال الفتاوى التالية أرقامها: 139468 ، 137147 ، 3086 ، 60628 ، 93352 .
فلا إشكال في كون الفقيه ينبغي له أن يوجه الموسوس إلى طبيب نفساني، ولا إشكال أيضا عندما يسأل الموسوس عن طلاق صدر منه في حال تحكمه في نفسه وسيطرته على إرادته. فالفقيه سيجيبه على حسب حالته، وهذا الأمر واضح في الفتاوى المنشورة بموقعنا المتعلقة بأحكام الموسوسين، وانظر على سبيل المثال الفتاوى التالية أرقامها: 164267 ، 164207 ، 151801 ، 150087

لكن ما ذا لو استفتى الفقيه موسوس قد صدر منه الطلاق بالفعل، وهو في الحالة التي أشار إليها الدكتور بقوله: ( بل هو مجبر عليها من داخله ولا يستطيع التوقف عن تكرارها رغم مقاومته الواعية لها) فهل يفتيه بأنه يمكن أن يستعمل الدواء الجديد فإذ استعمله وشفي وقع طلاقه السابق أم ماذا ؟ هذا هو محل الإشكال.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني