الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجمع بين عمل الدنيا والآخرة، وكسب رضا الله ورضا الناس

السؤال

كيف أستطيع أن أوفق بين الدنيا والآخرة؟ فإذا أردت الآخرة فيجب أن أتجنب الناس, وأنطوي على نفسي, ويجب ألا أعمل معهم, فكيف أوفق بين رضا الله والتعامل مع الناس وكسب ودهم؟ وكيف يكون الإخلاص لله في حال كانت عليّ رقابة في العمل؟ فأنا إنسانة يجب أن أعمل, وأنا معتمدة على راتبي, وعملي يمدني بالقوة, ومشكلتي تتلخص في شيئين, كل واحد منهما يكمل الآخر, وهما:
1- إنني قرأت مقالة أو حديثًا يقول: " من اعتمد على ماله قلّ, ومن اعتمد على سلطانه ذلّ, ومن اعتمد على عقله اختل, ومن اعتمد على الله فلا ذل ولا قل ولا اختل" فكيف أعمل وأعتمد على عملي ومالي, ولا يتعارض هذا مع ما سبق؟ وكيف يكون الاعتماد على الله؟ هل أستقيل وأنتظر من الله أن يرزقني؟
2- الأمر الثاني: أنه في العمل يكون هناك رقابة من المدراء, وأنا أحاول أن أكون مخلصة لله وحده, ولكن في نفس الوقت هناك تقييم من مدرائي, فأصبحت أتذكر مديري أثناء تأدية العمل, وأفكر: "هذا سيرضي مديري وأفعله, أو هذا لن يرضي مديري ولا أفعله" فكيف أوفق بين هذا ومراقبة الله لي؟ وكيف أكون مخلصة لله وفي نفس الوقت أعمل اعتبارًا لرقابة مدراء العمل؟ وهل هذا رياء؟ مع العلم أني لا أعمل أي شيء محرم أو يغضب الله, ولكني أشعر أني غير مخلصة لله, وحتى عندما أحسن علاقتي مع زملائي يكون هذا لأجل العمل, وعندما أكون دقيقة يكون هذا للعمل, وعندما أكون منضبطة يكون للعمل, وعندما أكون إنسانية يكون هذا للعمل, وفي نفس الوقت أمرنا ديننا بذلك, وأصبحت لا أعرف هل أنا أعمل هذا الشيء لأن الدين أمر به أم لأجل العمل؟ وهل إذا التزمت بهذه الأمور للحفاظ على لقمة عيشي لا أؤجر عليه؟ وهل يكون رياء؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فبإمكان المسلم أن يجمع بين العمل للدنيا والآخرة, ويحول حياته كلها إلى أجر وثواب وطاعة وعبودية لله تعالى؛ باستصحاب النية الصالحة في أعماله العادية، فيسعى في تحقيق مصالحه الدنيوية والأخروية معًا, كما قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك [القصص:77].
وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي... رواه مسلم.
وقال عمر - رضي الله عنه -: كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل يومًا وأنزل يومًا؛ فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك. رواه البخاري, قال ابن حجر - رحمه الله -: وفيه أن طالب العلم يجعل لنفسه وقتًا يتفرغ فيه لأمر معاشه وحال أهله. اهـ. وقد سبق بيان ذلك في الفتاوي التالية: 24782، 58107، 122837.

وليس من شرط العمل للآخرة أن ينطوي الإنسان عن الناس, بل الأصل هو تفضيل المخالطة على العزلة، كما هو منهج الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء, وقد قال صلى الله عليه وسلم: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. رواه الترمذي وابن ماجه.

وفي مخالطة الناس من المصالح والأجور العظيمة ما لا يوجد مثله في العزلة، وقد تكون العزلة أفضل إذا خاف الشخص فتنة في دينه. قال النووي - رحمه الله -: قوله صلى الله عليه وسلم: ( ثم مؤمن في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره), فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف: أن الاعتزال أفضل، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص، وقد كانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز, وعيادة المرضى, وحلق الذكر وغير ذلك, وأما الشعب: فهو انفراج بين جبلين، وليس المراد نفس الشعب خصوصًا؛ بل المراد الانفراد والاعتزال، وذكر الشعب مثالًا لأنه خال عن الناس غالبًا, وهذا الحديث نحو الحديث الآخر حين سئل صلى الله عليه وسلم عن النجاة فقال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك. انتهى.

وينبغي ان تكون المخالطة بقدر الحاجة, فيخالط الانسان من يحتاج إليه في أمور دينه وكسبه, ويترك فضول المخالطة, فقد قال ابن القيم - رحمه الله -: إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات، تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول، ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة, ويجعل الناس فيها أربعة أقسام, متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينها دخل عليه الشر:

أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله تعالى وأمره, ومكايد عدوه, وأمراض القلوب وأدويتها, الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله.

القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحًا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها، فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث. وهم: من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه... القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لأكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس، لا كثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا. انتهى.

وأما الجمع بين كسب رضا الله ورضا الناس فيمكن تحصيله بإتقان العمل, والبعد عن الغش فيه ابتغاء وجه الله, وامتثالًا لأمره بالوفاء بالعقد الذي بينك وبين من تعمل معه, وعملًا بقوله عليه الصلاة والسلام: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه. رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب، وحسنه الألباني في صحيح الجامع, وقوله صلى الله عليه وسلم: من غش فليس مني. رواه مسلم, وقوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ{الأنفال: 27}, وقوله عز وجل في وصف أهل الجنة: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {المؤمنون:8}.

وأما المذموم من مراعاة رضا المدير أو غيره فهو الحرص على إرضاء الناس بمعصية الله تعالى, ففي صحيح ابن حبان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله، ومن أسخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس.

وأما الكلام الذي ذكرت: ( من اعتمد على ماله قل .... ) فلم نجده بعد البحث منسوبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

والتوكل على الله تعالى مطلوب, ولكنه لا يعني ترك التدبير, ولا يتعارض مع استعمال العقل, وكسب المال من وجهه المشروع, فالأخذ بأسباب العيش لا ينافي التوكل الذي هو عمل القلب، فمع شغل الجوارح بعملها ينشغل القلب بالاعتماد على الله، حيث يعلم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه وحده الذي بيده الخلق والأمر، والنفع والضر، والعطاء والمنع، فلا مانع لما أعطى, ولا معطي لما منع، ولا حول ولا قوة إلا به.

وفي الصحيحين عن عمر: أن أموال بني النضير كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدةً في سبيل الله.

قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: فيه جواز ادخار قوت سنة، ولا يقال هذا من طول الأمل؛ لأن الإعداد للحاجة مستحسن شرعًا وعقلًا، وقد استأجر شعيب موسى عليهما السلام، وفي هذا رد على جهلة المتزهدين في إخراجهم من يفعل هذا عن التوكل. اهـ.

وقد سبق لنا بيان ماهية التوكل الحقيقي، وأن الأخذ بالأسباب لا ينافيه، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 18784 ، 23867 ، 44824 .

وللاطلاع على المزيد في موضوع الرياء في العمل راجعي فيه جوابنا رقم: 189241.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني