الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأحاديث الواردة في بيان تخلق الجنين أكثرها في بيان سبب الشبه، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة -: وهل يكون الشبه إلا من قِبَلِ ذلك، إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه. أخرجه مسلم. وحديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا، أو سبق، يكون منه الشبه. أخرجه مسلم. وحديث أنس: أن عبد الله بن سلام، بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟، وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: «أخبرني به جبريل آنفا» قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد» قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله ... الحديث أخرجه البخاري .
وهناك حديث واحد في بيان سبب تحديد جنس الجنين هل يكون ذكرا أم أنثى، وهو حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود .. وفيه: جئت أسألك عن الولد؟ فقال صلى الله عليه وسلم : «ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا، فعلا مني الرجل مني المرأة، أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل، آنثا بإذن الله». قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف فذهب .. الحديث. أخرجه مسلم.
وفي هذه الأحاديث إشكالان:
الإشكال الأول: أن علو الماء جاء في حديث عائشة أنه سبب للشبه ، وفي حديث ثوبان أنه سبب لتحديد جنس المولود.
الإشكال الثاني : - وهو الذي تكثر إثارته هذه الأيام - أن حديث ثوبان يفهم منه أن لماء المرأة دورا في تحديد جنس الجنين، مع أن المتقرر عند الأطباء أن المتسبب في ذلك ماء الرجل فحسب، وليس ماء المرأة.
أما ما يتعلق بالإشكال الأول: فقد ذهب القرطبي إلى تأويل العلو في حديث ثوبان، فقال: والذي يتعين تأويله: العلو الذي في حديث ثوبان، فيقال: إن ذلك العلو معناه: سبق الماء إلى الرحم، والذكورة . ووجهه : أن العلو لما كان معناه الغلبة، كما فسرناه، وكان السابق عاليًا في ابتدائه بالخروج قيل عليه: علا ، اهـ.
فاختار القرطبي أن الشبه يحصل بالعلو، وأن تحديد الجنس يحصل بسبق خروج الماء.
بينما ذهب ابن القيم إلى عكس ذلك فقال: إن سبق أحد المائين سبب لشبه السابق ماؤه، وعلو أحدهما سبب لمجانسة الولد للعالي ماؤه، فها هنا أمران سبق وعلو، وقد يتفقان وقد يفترقان، فإن سبق ماء الرجل ماء المرأة وعلاه، كان الولد ذكرا، والشبه للرجل. وإن سبق ماء المرأة وعلا ماء الرجل، كانت أنثى، والشبه للأم. وإن سبق أحدهما وعلا الآخر كان الشبه للسابق ماؤه، والإذكار والإيناث لمن علا ماؤه. اهـ.
وهو اجتهاد منهما رحمهما الله في الجمع بين الأحاديث وتوجيه مشكلها، والمصيب منهما له أجران والمخطئ له أجر واحد.
وأما الإشكال الثاني، فالجواب عنه: أن حديث ثوبان لا يدل على أن ماء المرأة سبب رئيس، وإنما فيه أن لماء المرأة تأثيرا، و هذا لا يخرج مني الرجل عن كونه هو المؤثر الحقيقي في تحديد جنس الجنين، وتأثير ماء المرأة إنما هو في اختيار الحيوان المنوي المذكر أو المؤنث من مني الرجل.
قال الدكتور الطبيب محمد علي البار – وفقه الله - : "وتضمن الحديث وصفاً لماء الرجل وماء المرأة، كما تضمن قضية الذكورة والأنوثة وأرجعها إلى أي الماءين علا، فالإذكار أو الايناث تبع له. ويبدو ذلك معارضا للآيات الكريمة التي ذكرت أن جنس الجنين يحدده مني الرجل فحسب * (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى) * النجم.، وقوله تعالى: * (أيحسب الانسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى. ثم كان علقة فخلق فسوى. فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى) * القيامة. كما يبدو معارضاً للمعلومات الطبية التي تؤكد أن جنس الجنين إنما يحدِّده الحيوان المنوي الذي سيلقح البويضة فإن كان حيواناً منوياً يحمل شارة الذكورة Y كان الجنين ذكراً بإذن الله، وإن كان حيوانا منوياً يحمل شارة الأنوثة X كان الجنين أنثى بإذن الله. . وفي الواقع ليس هناك تعارض وربما أثر علو ماء الرجل أو ماء المرأة في الحيوانات المنوية التي سيفلح واحد منهما بإذن الله في تلقيح البويضة، ونحن نعلم أن إفرازات المهبل حامضية وقاتلة للحيوانات المنوية، وأن إفرازات عنق الرحم قلوية. . ولكنها لزجة في غير الوقت الذي تفرز فيه البويضة. . وترق وتخف لزوجتها عند خروج البويضة. . وإلى الآن لا ندري مدى تأثير ماء المرأة على نشاط الحيوانات المنوية المذكرة أو المؤنثة. ولا بد من إجراء بحوث دقيقة لنتبين مدى تأثير هذه الإفرازات على الحيوانات المنوية المذكرة أو المؤنثة، ومدى تأثير علوها أو انخفاضها على نشاط هذه الحيوانات. وهناك من يقول إن معنى العلو هو الغلبة والسيطرة، فإن كانت الغلبة للحيوانات المذكرة كان إذكار - وان كان للمؤنثة كان إيناث بإذن الله." اهـ.
هذا وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- يرى أن لفظ حديث ثوبان فيه نظر كما قال ابن القيم – رحمه الله - : " وسئل صلى الله عليه وسلم عن شبَه الولد بأبيه تارة وبأمه تارة فقال: ( إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة كان الشبه له، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل فالشبه لها ) متفق عليه. وأما ما رواه مسلم في صحيحه أنه قال: ( إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكر الرجل بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل آنث بإذن الله ) فكان شيخنا – أي : ابن تيمية - يتوقف في كون هذا اللفظ محفوظا ويقول : " المحفوظ هو اللفظ الأول، والإذكار والإيناث ليس له سبب طبيعي، وإنما هو بأمر الرب تبارك وتعالى للملك أن يخلقه كما يشاء، ولهذا جعل مع الرزق والأجل والسعادة والشقاوة. اهـ.
وقال في موضع آخر : وسمعت شيخنا -- يعني : ابن تيمية - رحمه الله - يقول: في صحة هذا اللفظ نظر . قلت: لأن المعروف المحفوظ في ذلك، إنما هو تأثير سبق الماء في الشبه، وهو الذي ذكره البخاري من حديث أنس: " أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأتاه، فسأله عن أشياء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد» ...وبالجملة: فعامة الأحاديث إنما هي تأثير سبق الماء وعلوه في الشبه، وإنما جاء تأثير ذلك في الإذكار والإيناث في حديث ثوبان وحده، وهو فرد بإسناده، فيحتمل أنه اشتبه على الراوي فيه الشبه بالإذكار والإيناث، وإن كان قد قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهو الحق الذي لا شك فيه، ولا ينافي سائر الأحاديث، فإن الشبه من السبق. والإذكار والإيناث: من العلو، وبينهما فرق، وتعليقه على المشيئة لا ينافي تعليقه على السبب، كما أن الشقاوة والسعادة والرزق معلقات بالمشيئة، وحاصلة بالسبب. اهـ.
وهذا القول وجيه، وبه يرتفع الإشكالان.
والله أعلم.