الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تكلمنا عن وجوب إعفاء اللحية، وحكم الأخذ منها، وأدلة القائلين به في عدة فتاوى، منها الفتاوى أرقام: 185583 71215 3851 14055 . وقد ذكرنا فيها أن أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية جاء عن جمع من الصحابة كابن عمر ، وجابر ، وأبي هريرة رضي الله عنهم، فالأمر فيه واسع، وأما الأخذ مما دون القبضة فلا يجوز .
وما نقل في السؤال من قول الإمام أحمد " وأكرهه للرجال " فهو في شعر الوجه عموما، وليس في شعر اللحية.
جاء في المغني: فأما حف الوجه فقال مهنا: سألت أبا عبد الله عن الحف فقال: ليس به بأس للنساء، وأكرهه للرجال. اهـ.
وحتى إن كان المراد به شعر اللحية، فليس متعينا أن معنى الكراهة هنا كراهة التنزية، فإن الكراهة عند المتقدمين - كالإمام أحمد - يراد بها التحريم في كثير من كلامهم.
قال ابن تيمية: والكراهية في كلام السلف كثيرا وغالبا يراد بها التحريم . اهـ.
وقال ابن القيم: وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير جدا في تصرفاتهم؛ فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة، وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين: أكرهه، ولا أقول هو حرام، ومذهبه تحريمه، وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان. وقال أبو القاسم الخرقي فيما نقله عن أبي عبد الله: ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة، ومذهبه أنه لا يجوز، وقال في رواية أبي داود: ويستحب أن لا يدخل الحمام إلا بمئزر له، وهذا استحباب وجوب، وقال في رواية إسحاق بن منصور: إذا كان أكثر مال الرجل حراما فلا يعجبني أن يؤكل ماله، وهذا على سبيل التحريم. وقال في رواية ابنه عبد الله: لا يعجبني أكل ما ذبح للزهرة، ولا الكواكب، ولا الكنيسة، وكل شيء ذبح لغير الله، قال الله عز وجل: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3] . فتأمل كيف قال: " لا يعجبني " فيما نص الله سبحانه على تحريمه، واحتج هو أيضا بتحريم الله له في كتابه، وقال في رواية الأثرم: أكره لحوم الجلالة وألبانها، وقد صرح بالتحريم في رواية حنبل وغيره ... وهذا في أجوبته أكثر من أن يستقصى، وكذلك غيره من الأئمة. اهـ باختصار.
ونصوص الإمام أحمد- رحمه الله- تدل على أنه يرى جواز الأخذ مما زاد عن القبضة، وألا يؤخذ مما دون القبضة.
فعن حرب قال: سئل أحمد عن الأخذ من اللحية؟ قال: كان ابن عمر يأخذ منها ما زاد عن القبضة. وكأنه ذهب إليه - قلت له: ما الإعفاء؟ قال: يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: كأن هذا عنده الإعفاء. وعن إسحاق قال: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة. قلت: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم:((أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)) ؟قال: يأخذ من طولها ومن تحت حلقه. ورأيت أبا عبد الله يأخذ من طولها ومن تحت حلقه. وعن عبد الله بن حنبل قال: حدثني أبي. قال: قال أبو عبد الله: ويأخذ من عارضيه، ولا يأخذ من الطول. وكان ابن عمر يأخذ من عارضيه إذا حلق رأسه في حج أو عمرة، لا بأس بذلك. روى هذه النصوص الخلال في كتابه "الوقوف والترجل ".
ومذهب الحنابة أن حلق اللحية محرم.
جاء في الإقناع وشرحه - في ذكر بعض الأمور المسنونة - : (وإعفاء اللحية) بأن لا يأخذ منها شيئا. قال في المذهب: ما لم يستهجن طولها. (ويحرم حلقها) ذكره الشيخ تقي الدين (ولا يكره أخذ ما زاد على القبضة) ونصه لا بأس بأخذه (ولا أخذ ما تحت حلقه) لفعل ابن عمر، لكن إنما فعله إذا حج أو اعتمر. رواه البخاري (وأخذ) الإمام (أحمد من حاجبيه وعارضيه) نقله ابن هانئ . اهـ.
وكون حلق اللحية فيه تشبه بالمجوس والمشركين، ليس هو الحجة في تحريم حلقها، بل الحجة هي في الأمر الوارد بإعفاء اللحية. فلا ينقض وجوب إعفاء اللحية بعدم تحريم بعض الأمور التي فيها تشبه بالمشركين .
وما روي عن عائشة- رضي الله عنها- مرفوعا " ملائكة السماء يستغفرون لذوائب النساء، ولحى الرجال يقولون: سبحان الذي زين الرجال باللحى، والنساء بالذوائب " ؛ فهو حديث موضوع كما قال الخطيب البغدادي، والألباني .
لكن الحكم بأن حلق اللحية فيه تشبه بالنساء لا يفتقر إلى دليل؛ لأنه أمر مشاهد.
وعلى كل حال، فالحجة في تحريم حلق اللحية هي في الأمر الوارد بإعفائها، كما سبق، وليس لأن الحلق فيه تشبه بالنساء.
وأما عمر بن هارون فهو راوي حديث "كان يأخذ رسول الله من طول وعرض لحيته"، وقد بينا ضعف الحديث، وبعض كلام الأئمة في عمر بن هارون في الفتوى رقم: 14056 . وعامة الأئمة على تضعيف هذا الراوي، وكلامهم في ذلك طويل - تمكن مراجعته في تهذيب التهذيب وغيره -، و ليس من شرط رد حديث الراوي إجماع المحدثين على ضعفه.
وليعلم أن الواجب على المسلم الحرص على اتباع الحق، وتجريد النية في طلب الصواب، ومراقبة الله جل وعلا في ذلك، مع مجانبة الهوى عند النظر في الأدلة وكلام العلماء، وليس من شأن المؤمن التنقير عن آراء العلماء لأخذ الرخص منها، وتلقف الأقوال التي توافق هواه.
والله أعلم.