السؤال
الإمام النووي: والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين، وكانت حلالا قبل خيبر ثم أبيحت يوم فتح مكة، وهو يوم أوطاس لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة واستمر التحريم ـ شرح مسلم 3/553، فلماذا حللت ثم حرمت، ثم حللت ثم حرمت؟ ولماذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلل شيئا قد حرمه من قبل؟ ولماذا يحلل شيئا شنيعا ولو لفترة مؤقتة؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فللفائدة نبين أولا أن تكرار النسخ في مسألة المتعة أمر اختلف فيه أهل العلم، وترجيح النووي فيه بعد سرده للأقوال هو ما ذكرت، لكن الذي اختاره ابن القيم أن النسخ لم يتكرر في مسألة المتعة، يقول في زاد المعاد: واختلف في الوقت الذي حرمت فيه المتعة، على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يوم خيبر، وهذا قول طائفة من العلماء، منهم الشافعي وغيره.
والثاني: أنه عام فتح مكة، وهذا قول ابن عيينة وطائفة.
والثالث: أنه عام حنين، وهذا في الحقيقة هو القول الثاني، لاتصال غزاة حنين بالفتح.
والرابع: أنه عام حجة الوداع، وهو وهم من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع، كما سافر وهم معاوية من عمرة الجعرانة إلى حجة الوداع، حيث قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة في حجته، وقد تقدم في الحج، وسفر الوهم من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن واقعة إلى واقعة كثيرا ما يعرض للحفاظ فمن دونهم.
والصحيح: أن المتعة إنما حرمت عام الفتح، لأنه قد ثبت في صحيح مسلم أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه، ولو كان التحريم زمن خيبر، لزم النسخ مرتين، وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة، ولا يقع مثله فيها، وأيضا: فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات، وإنما كن يهوديات، وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد، إنما أبحن بعد ذلك في سورة المائدة.
أما ما سألت عنه من قولك: لماذا حللت ثم حرمت؟ فعلى فرض تكرار النسخ فليس شيئا من ذلك من تلقاء نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من عند الله تعالى، فليس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مبلغا ومخبرا عنه، وربنا سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، وهنا يحسن التنبيه إلى أمرين:
الأول: وهو أن التماس الحكمة والعلة في أحكام الله تعالى وأفعاله إنما يكون لأجل الاطمئنان والتثبت، وإلا فغياب الحكمة إنما يعد نقصا في فعل من لو خلا فعله عن الحكمة عد عابثا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، يقول الآمدي: الحكمة إنما تطلب في فعل من لو خلا فعله عن الحكمة لحقه الذم وكان عابثا، والرب يتعالى عن ذلك، لكونه متصرفا في ملكه بحسب ما يشاء ويختار من غير سؤال عما يفعل.
ويقول ابن بطال: وهذا حجة قاطعة في أنه يجب التسليم لله في دينه، ولرسوله في سنته، وبيانه لكتاب ربه، واتهام العقول إذا قصرت عن إدراك وجه الحكمة في شيء من ذلك، فإن ذلك محنة من الله لعباده، واختبار لهم ليتم البلوى عليهم.
الثاني: أنه لا تعارض بين كون المقدم على المتعة بعد تحريمها مقدم على الزنا وبين كونها كانت مباحة، وفي هذا المعنى قال أبو بكر الجصاص: فإن قيل: لا يجوز أن تكون المتعة زنًا، لأنه لم يختلف أهل النقل أن المتعة قد كانت مباحة في بعض الأوقات أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبح الله تعالى الزنا قط، قيل له: لم تكن زنًا في وقت الإباحة، فلما حرمها الله تعالى جاز إطلاق اسم الزنا عليها، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الزانية هي التي تنكح نفسها بغير بينة، وأيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ـ وإنما معناه التحريم لا حقيقة الزنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: العينان تزنيان، والرجلان تزنيان، فزنا العين النظر، وزنا الرجلين المشي، ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه ـ فأطلق اسم الزنا في هذه الوجوه على وجه المجاز، إذ كان محرمًا، فكذلك من أطلق اسم الزنا على المتعة، فإنما أطلقه على وجه المجاز وتأكيد التحريم. انتهى.
وللفائدة راجع الفتويين رقم: 182067، ورقم: 96401.
والله أعلم.