الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبدايةً نحمد فيك حرصك على اتباع الحق في مسائل الدين، ونشكر لك قصدك الحسن في تنبيهنا إلى مراجعة صحة فتوانا, وهي صحيحة إن شاء الله تعالى، وموافقةٌ لمذهب كثير من أهل العلم من السلف والخلف، كما سنبين - إن شاء الله -.
أما ما يخص فتوى ابن باز- رحمه الله - فإن ابن باز - رحمه الله - لا يقول بوجوب صاع في فدية التأخير، وإنما يقول بوجوب نصف صاع، وهو مُدّان، فالظاهر أنك أخطأت النقل، ويشهد لذلك قولك: (أي كيلو ونصف)، وهو وزن مُدَّين تقريبًا، أي نصف صاع.
قال - رحمه الله - وقد سئل عمن أخر القضاء إلى دخول رمضان: عليه التوبة إلى الله سبحانه، وإطعام مسكين عن كل يوم مع القضاء، وهو نصف صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من قوت البلد من تمر، أو بر، أو أرز, أو غيرها، ومقداره كيلو ونصف على سبيل التقريب, وليس عليه كفارة سوى ذلك, كما أفتى بذلك جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم ابن عباس - رضي الله عنهما - أما إن كان معذورًا لمرض أو سفر، أو كانت المرأة معذورة بحمل أو رضاع يشق عليها الصوم معهما، فليس عليهم سوى القضاء.
وهو أيضًا ما أفتت به اللجنة الدائمة.
وقال النووي - رحمه الله - في المجموع: {فرع} في مذاهب العلماء في من أخر قضاء رمضان بغير عذر حتى دخل رمضان آخر, قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يلزمه صوم رمضان الحاضر، ثم يقضي الأول، ويلزمه عن كل يوم فدية, وهي مدٌّ من طعام.
قال: وبهذا قال ابن عباس، وأبو هريرة، وعطاء بن أبي رباح، والقاسم بن محمد، والزهري، والأوزاعي، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحق، إلا أن الثوري قال الفدية مُدان عن كل يوم.
وقول الثوري موافق لما كان يفتي به ابن باز - رحمه الله - واللجنة الدائمة.
قال الكلوذاني في الهداية على مذهب الإمام أحمد: ولا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر، فإن أخره لزمه أن يقضي ويطعم مع كل يوم مسكينًا.
قال المحقق في الحاشية: قال إسحاق بن إبراهيم: سألته عن قضاء رمضان، وقد توالى عليه رمضان آخر؟ قال: "أما في التفريط يصوم هذا، ويطعم عن الآخر، مكان كل يوم نصف صاع" مسائل الإمام أحمد رواية إسحاق 1/ 129 اهـ.
فلعلَّ إطلاق الإمام أحمد هنا هو الذي رجع إليه ابن باز - رحمه الله - ومن وافقه، بينما قيده الحنابلة بنصف صاع في غير البر، أما في البر فربعه.
قال المجد ابن تيمية في المحرر: وإطعام المسكين مقدر بمدِّ برٍّ، أو نصف صاع تمر أو شعير هنا وفي كل موضع من الكفارات.
لكن جاء في الفتوى رقم: (15685) من فتاوى اللجنة الدائمة، بعضوية ابن باز: لكل مسكين مد من البر, أو نصف صاع من غيره. وهذا موافق لما عليه الحنابلة.
وقد قال ابن قدامة - رحمه الله - في المغني: وقال أبو هريرة: يطعم مدًّا من أي الأنواع شاء, وبهذا قال عطاء، والأوزاعي، والشافعي؛ لما روى أبو هريرة في حديث المُجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمكتل من تمر، قدره خمسة عشر صاعًا، فقال: «خذ هذا، فأطعمه عنك». رواه أبو داود. اهـ.
وذلك لأن خمسة عشر صاعًا عن ستين يومًا يحصل منها ربع صاع عن كل يوم، أي مدٌّ.
ثم قال مستدلًا لمذهب الحنابلة: ولنا ما روى أحمد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن أبي يزيد المدني قال: «جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمُظاهر: أطعم هذا، فإن مُدَّي شعير مكان مد بر» ولأن فدية الأذى نصف صاع من التمر والشعير، بلا خلاف، فكذا هذا.
قال: والمد من البر يقوم مقام نصف صاع من غيره، بدليل حديثنا؛ ولأن الإجزاء بمد منه قول ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وزيد, ولا مخالف لهم في الصحابة. اهـ.
ولا شك أن نصف الصاع أحوط من ربعه, وهو المد، ونصف الصاع في البر قول أبي حنيفة، ولعل ابن باز ومن ذهب مذهبه ذهبوا إلى ذلك في جميع الأصناف احتياطًا.
ولذلك لما سئل ابن عثيمين: ما مقدار الإطعام؟ فقال: يعطى كل مسكين نصف صاع، هذا هو الأحوط، نصف صاع من الطعام المعتاد في البلد. انتهى.
وعلى كلٍّ فما أفتينا به في الفتوى المذكورة صحيح موافق لما أفتى به جمع من السلف من الصحابة والتابعين، وله دليله من السنة، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما من الأئمة الفقهاء, ومن أراد الاحتياط بنصف الصاع فله ذلك.
والله أعلم.