الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، وسلم، أما بعد:
فإن الله تعالى لا يظلم أحدًا من خلقه، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور -تبارك، وتعالى، وتقدس، وتنزه- الغني الحميد، وقد جاء ذلك بأوضح عبارة، وأبلغ أسلوب في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا {النساء:40}، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {يونس:44}.
وفي الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم عن أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا.
وأما المعنى الذي يخطر ببالك في تفسير هذه الآية، فهو معنى باطل شرعا، ومستحيل عقلا ونقلا، والنصوص التي ذكرناها جلية في إبطاله، والقرآن لا تتضارب معانيه، بل يفسر بعضه بعضا، ويوضح ما أشكل منه، وهذا الإشكال أجاب عنه العلماء عدة أجوبة، ذكرها الشَّنْقِيطِيِّ فِي كتابه العظيم «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» (7/ 31):
ونحن ننقل كلامه هنا بتمامه لمتانته، وكثرة فوائده. يقول الشنقيطي: قَوْلُهُ -تَعَالَى-: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. مَا ذَكَرَهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، ذكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ- تَعَالَى - فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ»: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ* الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا [3: 182]. وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْفَالِ»: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ* كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ [8: 51 - 52]. وَقَوْلِهِ فِي «الْحَجِّ»: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ الْآيَةَ [22: 10 - 11]. وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «ق»: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [50: 29].
وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ (ظَلَّامٍ) فِيهَا صِيغَةُ مُبَالِغَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الْمُبَالِغَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفِعْلِ مِنْ أَصْلِهِ.
فَقَوْلُكُ مَثَلًا: زِيدٌ لَيْسَ بِقَتَّالٍ لِلرِّجَالِ - لَا يَنْفِي إِلَّا مُبَالَغَتَهُ فِي قَتْلِهِمْ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ رُبَّمَا قَتَلَ بَعْضَ الرِّجَالِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ - هُوَ نَفْيُ الظُّلْمِ مِنْ أَصْلِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْيَ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَدْ بَيَّنَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ الظُّلْمِ مِنْ أَصْلِهِ. وَنَفْيُ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ إِذَا دَلَّتْ أَدِلَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ، فَلَا إِشْكَالَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُرَادِ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا الْآيَةَ [4: 40] . وَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [10: 44]. وَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [18: 49]. وَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا. الْآيَةَ [21: 47] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» وَ «الْأَنْبِيَاءِ».
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا- نَفَى ظُلْمَهُ لِلْعَبِيدِ، وَالْعَبِيدُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَالظُّلْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمْ تَسْتَلْزِمُ كَثْرَتُهُمْ كَثْرَتَهُ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ الْمَنْفِيِّ التَّابِعَةِ لِكَثْرَةِ الْعَبِيدِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُمُ الظُّلْمُ، إِذْ لَوْ وَقَعَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ ظُلْمٌ، وَلَوْ قَلِيلًا، كَانَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الظُّلْمِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، كَمَا تَرَى.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ اتِّجَاهَ التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ نَفْيُ أَصْلِ الظُّلْمِ عَنْ كُلِّ عَبْدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا شَيْئًا، كَمَا بَيَّنَتْهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» الْحَدِيثَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُسَوِّغَ لِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ عَذَابَهُ -تَعَالَى- بَالِغٌ مِنَ الْعِظَمِ وَالشِّدَّةِ أَنَّهُ لَوْلَا اسْتِحْقَاقُ الْمُعَذَّبِينَ لِذَلِكَ الْعَذَابِ بِكُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ -لَكَانَ مُعَذِّبُهُمْ بِهِ ظَلَّامًا بَلِيغَ الظُّلْمِ مُتَفَاقِمَهُ، -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَشَارَ لَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ».
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ نَفْيُ نِسْبَةِ الظُّلْمِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ فَعَّالٍ تُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهَا النِّسْبَةُ، فَتُغْنِي عَنْ يَاءِ النَّسَبِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَمَعَ فَاعِلٍ وَفَعَّالٍ فَعِلَ ... فِي نَسَبٍ أَغْنَى عَنِ الْيَا فَقُبِلْ
وَمَعْنَى الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ: أَنَّ الصِّيَغَ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي هِيَ فَاعِلٌ كَظَالِمٍ، وَفَعَّالٌ كَظَلَّامٍ، وَفَعِلٌ كَفَرِحٍ - كُلٌّ مِنْهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهَا النِّسْبَةُ، فَيُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ يَاءِ النَّسَبِ، وَمِثَالُهُ فِي فَاعِلٍ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ فِي هَجْوِهِ الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ التَّمِيمِيِّ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِ
فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الطَّاعِمُ الْكَاسِي - النِّسْبَةُ، أَيْ ذُو طَعَامٍ وَكُسْوَةٍ. وَقَوْلُ الْآخَرِ -وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ -:
وَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ ... لَابِنٌ فِي الصَّيْفِ تَامِرْ
أَيْ ذُو لَبَنٍ وَذُو تَمْرٍ. وَقَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
كِلِينِي لَهُمْ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ ... وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ
فَقَوْلُهُ: «نَاصِبِ» ، أَيْ ذُو نَصَبٍ. وَمِثَالُهُ فِي فَعَّالٍ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ فَيَطْعَنُنِي بِهِ ... وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ وَلَيْسَ بِنَبَّالِ
فَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ بِنَبَّالٍ، أَيْ لَيْسَ بِذِي نَبْلٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ، وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ.
وَقَالَ الْأُشْمُونِيُّ بَعْدَ الِاسْتِشْهَادِ بِالْبَيْتِ الْمَذْكُورِ: قَالَ الْمُصَنَّفُ -يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ-: وَعَلَى هَذَا حَمَلَ الْمُحَقِّقُونَ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، أَيْ بِذِي ظُلْمٍ. اهـ.
وَمَا عَزَاهُ لِابْنِ مَالِكٍ جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ، وَمِثَالُهُ فِي فَعِلٍ قَوْلُ الرَّاجِزِ -وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ:
لَيْسَ بِلَيْلِي وَلَكِنِّي نَهِرٌ ... لَا أَدْلُجُ اللَّيْلَ وَلَكِنْ أَبْتَكِرْ
فَقَوْلُهُ: نَهِرٌ بِمَعْنَى نَهَارِيٍّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ مَعْنَى الظُّلْمِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى-. انتهى.
هذا؛ وننبه إلى أن المؤمن إن جال تفكيره، وخطر بباله ما يقتضي نقصا في حق الله -سبحانه وتعالى-، فعليه أن ينتهي عن ذلك، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويصرف فكره إلى الثوابت المحكمات، ويرجع إليها الأمور المشتبهات، وليسأل العلماء الراسخين عما اشتبه عليه.
والله أعلم.