الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مسائل حول النية واحتساب الأجر

السؤال

أحسن الله إليكم شيوخنا، كنت أتصفح موقعكم وقرأت بعض الفتاوى عن وجوب احتساب الأجر والنية لله لكي يحصل الشخص على الأجر عن قيامه بالأعمال، وقد وقع عندي إشكال في فهمي لهذه القضية، ولهذا أكتب بعض الحالات وأرجو أن تجيبوني عليها بالتفصيل:
الحالة الأولى: كلنا نعلم الأجر العظيم لقراءة القرآن، لكن عندما يقرأ الشخص القرآن قد ينسى أن يستحضر نية الحصول على الأجر، فهل إذا لم يأت بهذه النية لا يحصل على أجر القراءة، رغم أنه يتأثر بكلام الله ويخشع لكنه ينسى أن يحتسب نية الحصول على الأجر.
الحالة الثانية: إذا قام الشخص بالتسبيح وذكر الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يغيب عن باله احتساب الأجر، رغم أن الكثير من الأحاديث ذكر فيها أجر من يذكر الله ومن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يصلي عليه عشرا، فهل نسيان نية الحصول على الأجر يمنع الحصول على الأجر المذكور في الأحاديث؟.
الحالة الثالثة: نحن ندعو لوالدينا وزوجاتنا وأبنائنا وأحبائنا وأصدقائنا وغيرهم، وفي كثير من الأحيان تكون النية حسب الدعاء، فإذا دعوت لهم بالصلاح والحفاظ على الصلاة وغيرها من أعمال الخير فأنا أرجو لهم الخير في الآخرة والفوز بالجنة والنجاة من النار، وقد أدعو لهم بخير الدنيا أيضا لكي ينعموا في حياتهم، ولكن يغيب عن بالي أن أحتسب الأجر لنفسي في دعائي، فهل أحصل على الأجر في هذه الحالة؟.
الحالة الرابعة: أقوم بنصح الناس بأعمال وذلك رجاء الخير لهم في الآخرة وأيضا أنصحهم بما ينفعهم في الدنيا وأنسى أن أحتسب أجر النصيحة لنفسي، فهل أؤجر على نيتي بتمني الخير لهم؟.
الحالة الخامسة: الكلمة الطيبة والابتسامة من الأمور المحببة شرعا ويترتب عليها أجر عظيم فالتبسم والكلام الطيب صدقة، ونحن كثيرا ما نتبسم في وجوه إخواننا ونقول كلاما طيبا؛ سواء كان من ذكر الله أو إلقاء السلام أو غيرها من الأعمال، ومن الصعب أن نأتي بنية احتساب الأجر في كل مرة، وذلك لكثرة هذه الأحداث وتكررها يوميا، ولكن بالطبع الأصل أننا نرجو رضا الله والأجر على هذه الأعمال، فهل لنا أجر إذا نسينا؟.
الحالة السادسة: قد نرى شخصا يضرب في الشارع، وقد تستغيث بنا امرأة مثلا فنلبي بسرعة بناء على أخلاقنا وشهامتنا، وتكون الفزعة لا إرادية، ويصعب احتساب الأجر في تلك اللحظة، فهل لنا أجر في هذه الحالة؟.
الحالة السابعة: نحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نبينا وسبب في إيماننا بالله، ونشأنا ونحن نحبه وأصبح حبنا له حبا فطريا. سمعت مرة من أحد الشيوخ أننا نحبه لأن الله أمرنا بذلك ابتداء، ولكن من الملاحظ أن حبنا له أصبح بديهيا، وننسى أن نتقرب إلى الله بحبه، فنحن في الأصل نحبه بسبب كونه رسولا من الله، وهو سبب هدايتنا بعد الله، فهل هذه المحبة جائزة وعليها أجر؟ أم يجب أن نحبه لأن الله أمرنا بذلك؟ وهل علينا إثم إن نسينا أن نتقرب إلى الله بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل ما سبق ذكره يعتبر من التكلف؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن السائل لم يذكر لنا الفتاوى التي تشكل عليه، وأما عن النية واحتساب الأجر: فينبغي أن يعلم الأخ السائل أن النية محلها القلب، ولا يحتاج استحضارها إلى كبير عناء، بل هي مجرد قصد الإنسان للشيء وعلمه به، وكل فعل يفعله الإنسان العاقل لا بد أن يكون له قصد بذلك الفعل، ولذلك قال بعض العلماء لو كلف الإنسان أن يفعل شيئاً بلا قصد أي بلا نية لكان تكليفاً بما لا يطاق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في مجموع الفتاوى: فإن النية تتبع العلم فمن علم ما يريد فعله نواه بغير اختياره، وأما إذا لم يعلم الشيء فيمتنع أن يقصده..... انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا: ومعلوم في العادة أن من كبر في الصلاة لا بد أن يقصد الصلاة، وإذا علم أنه يصلي الظهر نوى الظهر، فمتى علم ما يريد فعله نواه ضرورة. انتهى.

وكما أن النية أمرها سهل، فالاحتساب كذلك ليس من الأمور الصعبة، فأي عمل عمله العبد مريدا لامتثال أمر الله تعالى فهو يعتبر محتسبا، فقد جاء في الحديث: لا أجر لمن لا حسبة له. رواه البيهقي، وحسنه الألباني.

قال المناوي في شرح الحديث: أي لا أجر لمن لم يقصد بعمله امتثال أمره تعالى والتقرب به إليه. انتهـى.

وإذا عمل الإنسان ما فيه إحسان إلى الخلق أو دعاء لهم فهو مأجور على كل، ولكن ابتغاء رضوان الله تعالى في ذلك العمل ينال به عظيم الأجر، فقد جاء في جامع العلوم والحكم لابن رجب: وقوله: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {النساء:114} فنفى الخير عن كثير مما يتناجى به الناس إلا في الأمر بالمعروف، وخص من أفراده الصدقة والإصلاح بين الناس، لعموم نفعها فدل ذلك على أن التناجي بذلك خير، وأما الثواب عليه من الله، فخصه بمن فعله ابتغاء مرضات الله، وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرا، وإن لم يبتغ به وجه الله، لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي، فيحصل به للناس إحسان وخير، وأما بالنسبة إلى الآمر، فإن قصد به وجه الله وابتغاء مرضاته، كان خيرا له وأثيب عليه، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرا له، ولا ثواب له عليه، وهذا بخلاف من صام وصلى وذكر الله يقصد بذلك عرض الدنيا، فإنه لا خير له فيه بالكلية، لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه، لما يترتب عليه من الإثم فيه، ولا لغيره لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد، اللهم إلا أن يحصل لأحد به اقتداء في ذلك... وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع، عن عمر قال: لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له ـ يعني: لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله عز وجل. اهـ.

ومثل هذا ما لو أن شخصا اشتغل بالذكرمع حضور القلب فأجره عظيم، ولكنه ينال شيئا من الأجر لا محالة لو ذكر وهو غافل لشغله جارحة اللسان بالطاعة، قال الغزالي ـ رحمه الله ـ في الإحياء: الاستغفار باللسان أيضاً حسنة، إذ حركة اللسان بها عن غفلة خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم أو فضول كلام، بل هو خير من السكوت عنه، فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه، وإنما يكون نقصاناً بالإضافة إلى عمل القلب. انتهى

وقال أيضاً: فإن تعود الجوارح للخير حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي. انتهى.

وقال ابن حجر في الفتح: أفاد العز بن عبد السلام أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له، كالأذكار والأدعية والتلاوة، لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة، ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا، ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقا، أي المجرد عن التفكر، قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب ـ ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: في بضع أحدكم صدقة ـ ثم قال في الجواب عن قولهم: أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ أرأيت لو وضعها في حرام. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني