الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجواب الأخ السائل يتلخص في مقامين:
ـ الأول: ما نقله من قصة إبراهيم بن سعد مع الرشيد، فإن ذلك لا يصح إسناده ولا يثبت! وقد ذكرها الشيخ عبد الله رمضان موسى في كتابه ـ الذي ضمنه الرد العلمي على أربعة من الكتب المعاصرة في إباحة الغناء والموسيقى، وهو كتاب مفيد وجامع في بابه ـ ثم قال: هذه الرواية كذب، ولا يجوز الاستدلال أو الاحتجاج بها؛ لأن في إسنادها أربع علل ... اهـ. ثم ذكرها تفصيلًا، ويمكنك أن تراجع هذا التفصيل المفيد من ص 397 إلى ص 403، ومن ص 556 إلى ص 562.
وأما ما ذُكِر في ترجمته من إباحة الغناء بالعود، فلم يذكره المزي في تهذيب الكمال، بل زاده ابن حجر في تهذيب التهذيب فقال: نقل الخطيب أن إبراهيم كان يجيز الغناء بالعود، وولي قضاء المدينة. اهـ. فهذا إن ثبت عنه، فهو زلة عالم، لا تؤخذ عنه، ولا يترك بسببها، قال القرطبي في تفسيره: قال الطبري: قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء، والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد، وعبيد الله العنبري، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالسواد الأعظم، ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية) اهـ.
قال الشيخ الفوزان في نقده لكتاب الحلال والحرام: ما أباحه ابراهيم بن سعد، وعبيد الله العنبري من الغناء ليس هو كالغناء المعهود المثير للنفوس .. فحاشا هذين المذكورين أن يبيحا مثل هذا الغناء الذي هو غاية في الانحطاط، ومنتهى الرذالة اهـ.
وقال الشيخ ابن باز كما في مجموع فتاويه: إبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن العنبري من ثقات أتباع التابعين، ولعل ما نقل عنهما من سماع الغناء إنما هو في الشيء القليل الذي يزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، ولا يجوز حملهما على سماع الغناء المحرم، وهكذا ما يروى عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- من سماع الغناء، وشراء الجواري المغنيات، يجب أن يحمل على الشيء اليسير الذي لا يصد عن الحق، ولا يوقع في الباطل، مع أن ابن عمر، والحسن البصري قد أنكرا عليه ذلك، ومعلوم عند أهل العلم والإيمان أن الحق أولى بالاتباع، وأنه لا يجوز مخالفة الجماعة، والأخذ بالأقوال الشاذة من غير برهان، بل يجب حمل أهلها على أحسن المحامل، مهما وجد إلى ذلك من سبيل، إذا كانوا أهلًا لإحسان الظن بهم؛ لما عرف من تقواهم وإيمانهم، وسبق لك -أيها القارئ- قول سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله. اهـ.
وهنا ننبه على أن علماء الحجاز قد اشتهرت عنهم بعض المسائل المعدودة في الزلات والترخص، ومنها سماع الملاهي، كما أثر غيرها عن أهل العراق، ومثل هذه المسائل مما يُجتنب، ولا يُغتر به، فقد روى الحاكم في معرفة علوم الحديث ص: 65 عن الأوزاعي قال: يجتنب أو يترك من قول أهل العراق خمس، ومن قول أهل الحجاز خمس، ومن قول أهل العراق: شرب المسكر، والأكل عند الفجر في رمضان، ولا جمعة إلا في سبعة أمصار، وتأخير صلاة العصر حتى يكون ظل كل شيء أربعة أمثاله، والفرار يوم الزحف، ومن قول أهل الحجاز: استماع الملاهي، والجمع بين الصلاتين من غير عذر، والمتعة بالنساء، والدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين يدًا بيد، وإتيان النساء في أدبارهن. اهـ.
ونقل ذلك الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير ثم قال: وروى عبد الرزاق عن معمر قال: لو أن رجلًا أخذ بقول أهل المدينة في استماع الغناء، وإتيان النساء في أدبارهن، وبقول أهل مكة في المتعة والصرف، وبقول أهل الكوفة في المسكر ـ كان شر عباد الله. اهـ.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة إبراهيم: كان ممن يترخص في الغناء على عادة أهل المدينة. اهـ. والمقصود أن هذا المذهب في الغناء المقترن بالمعازف مطَّرح متروك، ومخالف للأدلة المانعة منه، وقد حكى الإجماع على تحريمه جماعة من العلماء، منهم الإمام القرطبي، وأبو الطيب الطبري، وابن الصلاح، وابن رجب الحنبلي، وابن القيم، وابن حجر الهيتمي، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 130531.
وأما المقام الثاني فهو بيان أن المترخص في مثل هذا تأويلًا، لا تسقط عدالته؛ لأنه لا يعتقد الحرمة، فيكون فعله عند نفسه معصية، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/26: سمعت أبي يقول: جاريت أحمد بن حنبل من شرب النبيذ من محدثي الكوفة، وسميت له عددًا منهم، فقال: هذه زلات لهم، ولا تسقط بزلاتهم عدالتهم. اهـ.
وقال الإمام الشافعي في الأم 6/222: المستحل لنكاح المتعة، والمفتي بها، والعامل بها ممن لا ترد شهادته، وكذلك لو كان موسرًا فنكح أمة مستحلًا لنكاحها مسلمة، أو مشركة؛ لأنا نجد من مفتي الناس وأعلامهم من يستحل هذا، وهكذا المستحل الدينار بالدينارين، والدرهم بالدرهمين يدًا بيد، والعامل به؛ لأنا نجد من أعلام الناس من يفتي به، ويعمل به ويرويه، وكذلك المستحل لإتيان النساء في أدبارهن، فهذا كله عندنا مكروه محرم، وإن خالفنا الناس فيه، فرغبنا عن قولهم، ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم، ونقول لهم: إنكم حللتم ما حرم الله وأخطأتم؛ لأنهم يدعون علينا الخطأ، كما ندعيه عليهم، وينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز وجل. اهـ.
وقال الشريف حاتم العوني في خلاصة التأصيل لعلم الجرح والتعديل ص:10: سبب اشتراط العدالة: الاطمئنان إلى أن الراوي -أو الشاهد- فيه من التقوى والورع ما يمنعه عن تعمد الكذب؛ إذ بغير مراقة الله تعالى، واستحضار علمه سبحانه بكل شيء، مع خشية عقابه - لا يردع الإنسان عن الكذب شيء، إذا كان له في الكذب مصلحة، واطمأن إلى عدم افتضاحه به عند الناس ... ولما كان ذلك هو سبب اشتراط العدالة استثنينا من الفساق فساق التأويل: كالمبتدع -غير المكفر ببدعته- المتأول -غير المعاند-، وكمن يشرب النبيذ على مذهب الكوفيين؛ لأن هؤلاء ـ وإن كنا نغلظ عليهم هذا الاعتقاد أو الفعل، لخطورته ومخالفته الصريحة للنصوص الشرعية، ونحذر الناس منهم، ومن الاغترار بهم ـ قد لا يكون وقوعهم فيما وقعوا فيه بسبب ضعف الوازع الديني في قلوبهم، ذلك الضعف الذي لا يمنع صاحبه من تعمد الكذب، بل وقعوا في ذلك الفسق جهلًا، أو تأولًا -وأحدهما مصاحب للآخر- مع تعظيمهم لحرمات الدين، وقوة مراقبة الله تعالى في قلوبهم، مما يطمأن معه إلى أنهم لن يتعمدوا الكذب. اهـ.
والله أعلم.