السؤال
في تفسير سورة يوسف: (قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
خشي يعقوب -عليه السلام- أن يحدث بهذا المنام أحدًا من إخوته فيحسدوه على ذلك، فيبغوا له الغوائل، حسدًا منهم له؛ ولهذا قال له: (لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به، وإذا رأى ما يكره فليتحوَّل إلى جنبه الآخر، وليتفل عن يساره ثلاثًا، وليستعذ بالله من شرها، ولا يحدث بها أحدًا، فإنها لن تضره» أريد التوفيق بين الأمرين.
السؤال الثاني: هل من الممكن تفسير حديث: "الرُّؤْيَا عَلَى رِجْل طَائِر مَا لَمْ تُعَبَّر فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ" وشكرًا جزيلًا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل هو مشروعية إخبار الرائي برؤياه المحبوبة لمن يعلم أنه يحبه، من باب التحدث بالنعم؛ لما في صحيح مسلم مرفوعًا: الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب، فلا يحدث به إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثًا، وليتعوذ بالله من الشيطان، ولا يحدث بها أحدًا فإنها لن تضره.
قال ابن العربي: إذا أصبت خيرًا، أو علمت خيرًا فحدث به الثقة من إخوانك، على سبيل الشكر، لا الفخر والتعالي، وفي المسند مرفوعًا: من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بالنعمة شكر، وتركها كفر.. اهـ.
وينبغي كتمان النعمة، وعدم التحدث بها إذا خشي الإنسان على نفسه الحسد، والكيد من الناس، ومن هذا الباب ما كان من يعقوب -عليه السلام- عندما أمر ابنه يوسف -عليه السلام- أن يكتم رؤياه عن إخوته؛ لئلا يكيدوا له كيدًا، ولم ينكر عليه إخبار والده بالرؤيا، قال سبحانه حكاية عنه: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ {يوسف: 5}
وجاء في تفسير ابن كثير: يقول تعالى مخبرًا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له، وتعظيمهم إياه تعظيمًا زائدًا بحيث يخرون له ساجدين إجلالًا واحترامًا وإكرامًا، فخشي يعقوب -عليه السلام- أن يحدث بهذا المنام، أحدًا من إخوته فيحسدونه على ذلك، فيبغون له الغوائل، حسدا منهم له، ولهذا قال له: لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا. أي: يحتالوا لك حيلة يردونك فيها؛ ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به، وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر، وليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من شرها، ولا يحدث بها أحدًا فإنها لن تضره».
وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد، وبعض أهل السنن من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت».
ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر، كما ورد في حديث: «استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها، فإن كل ذي نعمة محسود» . اهـ
وفي فتاوى نور على الدرب للعثيمين: إن رأى الإنسان ما يكره فليستعذ بالله من شر الشيطان، ومن شر ما رأى، ولا يحدث أحداً بذلك، ولا تضره، وإن رأى ما يحب فليحدث بها، لكن لا يحدث بها شخصاً يخشى أن يحسده عليها؛ ولهذا لما قال يوسف لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فبدأ أولاً بتحذير ابنه أن يحدث بها اخوته خوفًا من أن يكيدوا له كيدًا، فإذا رأى الإنسان ما يحب، ويستبشر به فليحمد الله على ذلك، ولكن لا يحدث إلا شخصًا يحب له ما يحب لنفسه؛ لأن كثيرًا من الناس أشرار، فربما إذا حدثهم بها كادوا له كيدًا حتى لا تتحقق هذه الرؤيا. اهـ.
وراجع في شرح الحديث المذكور الفتوى رقم: 171999.
والله أعلم.