السؤال
أحيانا إذا تعرضت للأذى باللسان أو الجوارح من شخص ذي مكانة اجتماعية أكثر مني -مثل: أن يكون طبيبا أو مهندسا أو يكون الأول على دفعتي- أجد من نفسي امتناعا عن الانتصار لنفسي تعظيمًا له, ولمكانته الاجتماعية, ولكن بعد ذلك أجد ألما في نفسي كبيرا, فهل امتناعي صحيح أم يجوز الانتصار للنفس مهما كانت المكانة الاجتماعية؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العفو عن المسيء خلق فاضل حث عليه الشرع، فقد قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. {آل عمران:134،133}، وقال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. {الشورى:40}، وقال تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. {النور:22}، وقال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. {المائدة:13}، وقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. {الأعراف:199}.
وإن رغب المظلوم أن يقتص لنفسه بقدر مظلمته، دون تعد ولا بغي، فيجوز له ذلك، كما قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا. {الشورى:40}, وقال تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. {الشورى:41}, وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم. رواه مسلم.
ففي هذا الحديث: جواز الانتصار بشرط تحقيق المثلية, وعدم التعدي.
قال النووي: معناه: أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادئ منهما كله، إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار، فيقول للبادئ أكثر مما قال له. وفي هذا: جواز الانتصار، ولا خلاف في جوازه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}, وقال تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}. ومع هذا: فالصبر والعفو أفضل؛ قال الله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}. ولحديث: ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا. واعلم أن سباب المسلم بغير حق حرام، كما قال صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق. ولا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلا بمثل ما سبه ما لم يكن كذبا أو قذفا أو سبا لأسلافه. فمن صور المباح أن ينتصر بـ: يا ظالم، يا أحمق، أو جافي، أو نحو ذلك، لأنه لا يكاد أحد ينفك من هذه الأوصاف. اهـ. وراجع الفتويين: 114087، 30075.
هذا؛ وننبه على أنه إن لم يكن عفوك عن هذا الشخص ابتغاء وجه الله, وإنما كان لأجل مكانته الاجتماعية، فإنه لا إثم عليك في ذلك, وإنما فاتك الثواب عليه. قال الشيخ/ علي الخضير في شرح كتاب التوحيد: الرياء خاص بالأعمال الصالحة، ولذا لو عمل الأعمال الدنيوية ليمدحه الناس فهذا ليس من الرياء، مثال ذلك: لو حسن بيته أو مركبه ليمدحه الناس، ويدل على ذلك: ما رواه الإمام أحمد من حديث شداد بن أوس أنه قال: من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق ـ فذكر الأعمال الصالحة فقط. اهـ.
وجاء في جامع العلوم والحكم لابن رجب: وقوله: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {النساء:114} فنفى الخير عن كثير مما يتناجى به الناس إلا في الأمر بالمعروف، وخص من أفراده الصدقة، والإصلاح بين الناس، لعموم نفعها، فدل ذلك على أن التناجي بذلك خير، وأما الثواب عليه من الله، فخصه بمن فعله ابتغاء مرضات الله، وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرا، وإن لم يبتغ به وجه الله، لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي، فيحصل به للناس إحسان وخير، وأما بالنسبة إلى الأمر، فإن قصد به وجه الله, وابتغاء مرضاته، كان خيرا له، وأثيب عليه، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرا له، ولا ثواب له عليه، وهذا بخلاف من صام, وصلى, وذكر الله، يقصد بذلك عرض الدنيا، فإنه لا خير له فيه بالكلية، لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه لما يترتب عليه من الإثم فيه، ولا لغيره, لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد، اللهم إلا أن يحصل لأحد به اقتداء في ذلك... وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع، عن عمر، قال: لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له ـ يعني: لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله -عز وجل-. اهـ.
قال السعدي: فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء. ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا. فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى, ويخلص العمل لله في كل وقت, وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا, لأن النية حصلت, واقترن بها ما يمكن من العمل. تفسير السعدي.
والله أعلم.