السؤال
أنا طالب نجحت بالدراسة, وأبي يعمل قاضيا، فانهالت علي الهدايا والأموال من معارف أبي كعادة من العادات الاجتماعية في بلادنا.
سؤالي عن حكم قبول هذه الهدايا؟ علما أن من بين الناس محامين، ومن له مصلحة من معرفة أبي، وهل هي من الهدايا المحرمة؟
وقد أهدانا محام أكياسا من السكر، فما حكم أكلي منه؟ علما أني صارحت أهلي، ولم يقتنعوا أن هذه الهدايا حرام.
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عامة العلماء على تحريم الهدايا في الجملة على القاضي، ونحوه ممن يعمل في ولاية عامة للمسلمين؛ لما ورد من النصوص في ذلك، ولما فيه من تهمة المحاباة للمهدي، على اختلاف بين العلماء في تفاصيل الهدية المحرمة، وما دمت تعلم أن سبب بعض الهدايا هو: التقرب إلى أبيك، والطمع في التأثير عليه، ومحاباته فهي رشا, لا يجوز قبولها، ولو كان ظاهر الأمر أنها لك لا له، لكنها ما أعطيت لك إلا لتقرب أصحابها زلفى إلى أبيك، فتحرم لذلك.
روى البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن القاسم قال: حدثنا مَالِكٌ، قَالَ: أَهْدَى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نُمْرُقَتَيْنِ لِامْرَأَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَدَخَلَ عُمَرُ فَرَآهُمَا, فَقَالَ: "مِنْ أَيْنَ لَكِ هَاتَيْنِ؟ اشْتَرَيْتِهِمَا؟ أَخْبِرِينِي, وَلَا تَكْذِبِينِي", قَالَتْ: بَعَثَ بِهِمَا إِلِيَّ فُلَانٌ, فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلَانًا, إِذَا أَرَادَ حَاجَةً فَلَمْ يَسْتَطِعْهَا مِنْ قِبَلِي أَتَانِي مِنْ قِبَلِ أَهْلِي، فَاجْتَبَذَهُمَا اجْتِبَاذًا شَدِيدًا مِنْ تَحْتِ مَنْ كَانَ عَلَيْهِمَا جَالِسًا, فَخَرَجَ يَحْمِلُهُمَا, فَتَبِعَتْهُ جَارِيَتُهَا فَقَالَتْ: إِنَّ صُوفَهُمَا لَنَا, فَفَتَقَهُمَا, وَطَرَحَ إِلَيْهَا الصُّوفَ, وَخَرَجَ بِهِمَا, فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا امْرَأَةً مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ, وَأَعْطَى الْأُخْرَى امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ.
وفي أخبار الدولة الأموية: أن عبد الملك كان يراقب قضاته، ويتابع أخبارهم، وقد أخبر أن زوجة قاضية الحارث الأشعري كلمت زوجها في رجل يقضي له بقضية، وأن الرجل أهدى إلى زوجة القاضي هدية، فقال عبد الملك:
إذا رشوة من باب بيت تقحمت لتسكن فيه والأمانة فيه.
سعت هربا منه وولت كأنها حليم تولى عن جوار سفيه.
وقال في كشاف القناع: ( ومثله لو خُتن) القاضي (ولده ونحوه فأُهدي له، ولو قلنا: إنها للولد؛ لأن ذلك وسيلة إلى الرشوة)
(وإن قبل) الرشوة أو الهدية (حيث حرم القبول وجب ردها إلى صاحبها، كمقبوض بعقد فاسد) وقيل: تؤخذ لبيت المال لخبر ابن اللتبية (وقال الشيخ فيمن تاب: إن علم صاحبه دفعه إليه وإلا دفعه في مصالح المسلمين. انتهى) اهـ. باختصار.
فأبناء الرجل وزوجه ونحوهم من خاصته يؤثرون عليه، والتقرب إليهم بالهدايا لذلك غرض فاسد، وسبب غير مشروع، وسد الذرائع إلى المحرم حتم، كما قال بعض أهل العلم، فمنعت تلك الهدايا لذلك. ونص الحنفية على: أن ولد القاضي ونحوه لو ارتشى مع علم القاضي بذلك، ورضاه عنه، فيكون كما لو ارتشى هو نفسه فيما يترتب على ذلك من أحكام؛ جاء في درر الحكام: وَلَوْ ارْتَشَى وَلَدُ الْقَاضِي أَوْ كَاتِبُهُ أَوْ بَعْضُ أَعْوَانِهِ، فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ كَانَ كَارْتِشَائِهِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ مَرْدُودًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَكَانَ عَلَى الْمُرْتَشِي رَدُّ مَا قَبَضَ. اهـ.
فالرشوة هي: ما يتوصل به إلى إحقاق باطل أو إلى إبطال حق ونحو ذلك من المقاصد السيئة، سواء صرح بها الراشي أو أضمر ذلك في نفسه، وسواء أراد غرضه الفاسد الآن أو في المستقبل، فهي -والحال هذه- رشوة في حقه، ويندرج عمله تحت الوعيد الوارد في لعن الراشي.
فوجب الحذر مما كان سببه منصب أبيك، والطمع في التأثير عليه، ومحاباته لباذل الهدية، بخلاف ما لم يكن كذلك مما أهدي إليك، ويسهل التمييز بين الهديتين؛ فما كان معتادًا قبل تولي أبيك لمنصب القضاء، فلا باس به، وما لم يكن معتادًا قبل ذلك، وغلب على ظنك كون باذله قصد به تلك المقاصد المحذورة، فيجتنب.
والله أعلم.