السؤال
جزاكم الله خيرا، وأعانكم على الخير والبركات.
قال الله تعالى في سورة الإسراء: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا)
قرأت عدة تفاسير من عدة مصادر، منها من قال: إن الإفسادتين قد حدثتا فعلا، وانتهت في الماضي، وإن ما يحدث الآن هو في إطار (وإن عدتم عدنا). فإذا كان الأمر كذلك فهذا معناه أن هناك أكثر من إفسادتين، إلا إن كان ما يحدث الآن من اليهود في الأرض ليس إفسادا، وهذا غير منطقي
إذ إنهم يقتلون، ويسرقون، ويفسدون في الأرض جميعها، ويعتدون على القدس والمسجد الأقصى، ونفوذهم في كل العالم بالإضافة توسعهم السكاني والمادي كما بين الله في (وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا).
إذا كانت الإفسادتان قد حدثتا فعلا، فما هو تفسير ما يحدث الآن؟ ولا يمكن وضع ما يحدث الآن تحت إطار (وإن عدتم عدنا)؛ لأن ما يحدث الآن هو إفساد في الأرض.
إذن هناك تناقض بين تفسير المفسرين وبين ما يقوله الله تعالى؛ إذا كان الله -سبحانه وتعالى- قد حدد أن هناك إفسادتين إذن سيفسدون في
الأرض مرتين فقط، ولن يكون هناك أخرى؛ لأن كلام الله هو الحق. (وإن عدتم عدنا) هي للوعيد؛ يتوعد بها بني إسرائيل
بأن الله لهم بالمرصاد، ولا يمكن تفسيرها بأنها إفسادات قادمة؛ لأن الله حدد عدد الإفسادات باثنتين فقط.
فسؤالي: كيف يمكن للمفسرين تفسير ما يحدث في عصرنا الحالي وما يفعله اليهود هو في إطار (وإن عدتم عدنا)، وأن الإفسادتين اللتين ذكرهما الله في أول السورة قد حدثتا؟ وهل يمكن اعتبار ما يحدث الآن ليس بإفساد في الأرض طالما أن الإفسادتين قد حدثتا فعلا؟
ولا أقصد بأسئلتي التشكيك بكلام الله -والعياذ بالله أن أكون من الجاهلين-، وأنا على يقين بأن كلام الله -سبحانه وتعالى- هو الحق، ولكن أشكك بصحة بعض التفسيرات.
وبارك الله فيكم.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بين الله -سبحانه وتعالى- في سورة الإسراء أنه كتب على بني إسرائيل أنهم يفسدون في الأرض مرتين، ويتجبرون فيها، وقد حصل ذلك منهم -كما قال المفسرون-، فأرسل الله عليهم في المرة الأولى بختنصر؛ فاستباح بيضتهم، واستأصل شأفتهم، وأذلهم وقهرهم، جزاء وفاقًا، ثم رد الله لبني إسرائيل قوتهم، ومدهم كأول مرة؛ فعتوا كسابق عهدهم، وحصل منهم إفساد في الأرض كالإفساد الأول أو يزيد، فأرسل الله عليهم من فعل بهم مثل فعل بختنصر أو يزيد، وهو: بيردوس ملك بابل، كما ذكر ذلك البيضاوي في تفسيره، وذكره غيره على خلاف في من سلط على بني إسرائيل بعد الإفسادتين.
ثم بين سبحانه: أنهم إن عادوا للإفساد في المرة الثالثة فإنه -جل وعلا- يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم، ولم يبين سبحانه هل عادوا أم لا؟ ولكن الآيات تشير إلى أنهم قد عادوا للإفساد، فعاد الله للانتقام منهم؛ جاء في أضواء البيان للشيخ/ محمد الأمين الشنقيطي: ولم يبين هنا: هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أو لا؟ ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكتم صفاته، ونقض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة، فعاد الله -جل وعلا- للانتقام منهم تصديقًا لقوله: وإن عدتم عدنا [17 8] فسلط عليهم نبيه -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، فجرى على بني قريظة، والنضير، وبني قينقاع، وخيبر، ما جرى من القتل والسبي والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة.
فمن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد: قوله تعالى: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين * بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين [2 89، 90] ، وقوله: أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم الآية [2 100]، وقوله: ولا تزال تطلع على خائنة منهم الآية [5 13]، ونحو ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدالة على أنه تعالى عاد للانتقام منهم: قوله تعالى: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار * ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [59 2 - 3، 46]، وقال تعالى: وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها.. الآية [33 26، 27]، ونحو ذلك من الآيات. اهـ.
وبهذا يتبين أنه لا وجه لاعتراض السائل؛ فالله -عز وجل- أشار إلى عدم حصر إفسادهم في المرتين المذكورتين حينما قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا {الإسراء:8}، ولو كانوا لن يفسدوا غير الإفسادتين المذكورتين، فلماذا يهددهم المولى -جل وعلا- بالعودة للانتقام منهم إن عادوا، وهو يعلم أنهم لن يعودوا أصلًا.
وعلى هذا نقول -كخلاصة لهذه المسألة-: إن الله -عز وجل- أخبر أنه قضى على بني إسرائيل في كتابهم أنهم يفسدون مرتين ويعلون ويتجبرون، وأنه ينتقم منهم، ويسلط عليهم من يقهرهم ويذيقهم العذاب في المرتين، لكنه لم يحصر إفسادهم في تينك الإفسادتين، بل وضع قانونًا إلهيًّا عادلًا وثابتًا، وهو: أنهم كلما عادوا للإفساد وللطغيان والتجبر عاد الله للانتقام منهم، وذلك مستمر إلى قيام الساعة، كما تشير الآية الكريمة الأخرى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {الأعراف:167}،
يقول الشيخ/ القرضاوي -حفظه الله-: هم يقعون تحت هذه السنة الإلهية أو القانون الرباني العادل المستمر، وهو: (وإن عدتم عدنا)؛ هم عادوا إلى الفساد ولم يتركوا الفساد، يعني منذ الإسلام إلى الآن ما ترك اليهود الفساد، ولا الكيد، ولا المكر، ولذلك ما بين الحين والحين يُسلِّط عليهم من يؤدبهم من هتلر، وقبله قياصرة روسيا، وقبلها في إسبانيا.. بالعكس هم طُرِدوا من العالم، ولم يجدوا كهفًا يأوون إليه، ولا صدرًا حنونًا يضمهم إلا بلاد المسلمين، دار الإسلام هي التي وسعتهم، ولكن عندما أتيحت لهم الفرصة قلبوا ظهر المِجنّ للمسلمين، وغدروا بالمسلمين، فهم الآن يقعون تحت هذه السنة الإلهية: (وإن عدتم عدنا)، وقد عادوا وعلوا في الأرض، وبغوا، وقتَّلوا، وصلَّبوا، وحدث منهم ما حدث، فلا بد أن تعود عليهم العقوبة الإلهية، ولكن (وكل شيء عنده بمقدار)؛ الله لا يعجل بعجلة أحدنا، ثم لا بد أن نصلح نحن أنفسنا أيضًا، ونغير ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا. اهـ.
والله أعلم.