السؤال
قرأت حديثا يقول: إن الله إذا أحب عبدا ابتلاه ـ ويؤيد هذا الكلام القرآن في قوله تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ـ ولكن مرت علي آية قال فيها تعالى: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ـ فهل المقصود بالعذاب الأدنى هنا الابتلاء نفسه؟ أم المعني بهذه الآية الكفار فقط، لأنهم ذكروا في الآية التي تسبقها؟.
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المصائب والبلايا والمنغصات التي تصيب الإنسان لها حالتان:
الأولى: أن تصيب المسلم المستقيم على دينه الصابر على بلاء ربه، فهو امتحان واختبار لتكفير ذنبه ورفعة درجته، وليست دليلاً على غضب الله، بل هي دليل حب الله إياه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيراً يصب منه. رواه البخاري وأحمد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة. رواه الترمذي وأحمد بإسناد حسن.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وحسنه الألباني.
الثانية: أن تصيب الكافر والمسلم العاصي تنبيها له في الدنيا قبل الآخرة، حتى يتوب ويرجع، وعلى هذا حمل بعضهم قول الله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {السجدة:21}.
وقوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {الروم:41}.
وقال جمع من المفسرين: إن المراد بالعذاب الأدنى هنا: عذاب القبر ـ كما قال سبحانه: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {الطور:45-47}.
والمراد بالعذاب في قوله: عذاباً دون ذلك ـ عذاب القبر، فيما ذهب إليه كثير من المفسرين، وفي تفسير ابن جزي: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى ـ يعني الجوع ومصائب الدنيا، وقيل: القتل يوم بدر، وقيل: عذاب القبر، وهذا بعيد، لقوله: لعلهم يرجعون. اهـ.
وفي تفسير ابن كثير: وقوله تعالى: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ـ قال ابن عباس: يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه، وروي مثله عن أبي بن كعب وأبي العالية والحسن وإبراهيم النخعي والضحاك وعلقمة وعطية ومجاهد وقتادة وعبد الكريم الجزري وخصيف، وقال ابن عباس في رواية عنه: يعني به إقامة الحدود عليهم، وقال البراء بن عازب ومجاهد وأبو عبيدة: يعني به عذاب القبر، وقال النسائي، أخبرنا عمرو بن علي، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، وأبي عبيدة عن عبد الله: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ـ قال: سنون أصابتهم، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني عبد الله بن عمر القواريري، حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن قتادة عن عروة عن الحسن العوفي عن يحيى الجزار، عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب في هذه الآية: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ـ قال: القمر والدخان قد مضيا، والبطشة واللزام، ورواه مسلم من حديث شعبة به موقوفا نحوه، وعند البخاري عن ابن مسعود نحوه، وقال عبد الله بن مسعود أيضا في رواية عنه: العذاب الأدنى ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر، وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم، قال السدي وغيره: لم يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير، فأصيبوا أو غرموا، ومنهم من جمع له الأمران.
وفي تفسير القرطبي: قوله تعالى: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى ـ قال الحسن وأبو العالية والضحاك وأبي بن كعب وإبراهيم النخعي: العذاب الأدنى ـ مصائب الدنيا وأسقامها مما يبتلى به العبيد حتى يتوبوا، وقاله ابن عباس، وعنه أيضا أنه الحدود، وقال ابن مسعود والحسين بن علي وعبد الله بن الحارث: هو القتل بالسيف يوم بدر، وقال مقاتل: الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف، وقاله مجاهد، وعنه أيضا: العذاب الأدنى ـ عذاب القبر، وقاله البراء بن عازب قالوا: والأكبر عذاب يوم القيامة، قال القشيري: وقيل عذاب القبر، وفيه نظر، لقوله: لعلهم يرجعون ـ قال: ومن حمل العذاب على القتل قال: لعلهم يرجعون ـ أي يرجع من بقي منهم، ولا خلاف أن العذاب الأكبر عذاب جهنم، إلا ما روي عن جعفر بن محمد أنه خروج المهدي بالسيف، والأدنى غلاء السعر، وقد قيل: إن معنى قوله: لعلهم يرجعون ـ على قول مجاهد والبراء: أي لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه. اهـ.
والله أعلم.